Wednesday, November 26, 2008

همّام وإيزابيلا [٤] الكنز

بقلم أسامة غريب ٢٦/ ١١/ ٢٠٠٨

مضت الأيام داخل السجن بطيئة على همام بن عليش الكوارشى فى انتظار المصير. وكان يقيم على خلاف غيره من المساجين فى غرفة فسيحة تم إعدادها من أجله، وقام على خدمته فيها عدد من المساجين.

وعلى الرغم من المعاملة القاسية التى كان يتعرض لها كل من يسوقه حظه إلى سجن «الأدغم»، فإن الحراس واَمرى السجن لم يكونوا يصدقون أن ما يرونه هو شىء حقيقى، وبدا لهم لعبة يلعبها الكبار من أجل إزجاء الوقت ودفع الملل، وهذا شىء لم يكن مستغرباً على أبناء الأعيان، الذين حازوا ثروة تفوق مال قارون دون أى جهد،

وكانت أيامهم تمضى ما بين صيد وقنص ولهو وسماع وخمر ونساء من كل صنف، وكان بعضهم قد وقع فى أسر الخلطات الرهيبة التى كان يقوم بتركيبها أبوحصيرة العطار اليهودى، ومن أشهرها خلطة الحبشتان المغربى وخلطة القلقشند المطحون، التى كان العطار يجلب موادها من مملكة أراجون،

وقيل إن الملك خايمى الأول كان يمنحه إياها بالمجان لنشرها بين الشباب فى مرسية، ثم وصلت بركاته إلى أشبيلية!. وكثيراً ما كان أبناء الأعيان من الشباب المترف يخرجون فى الليل تحت تأثير ما تعاطوه فيقومون بالإغارة على أحياء الفقراء فى حماية فرقة الجندرمة ويختطفون امرأة من فراش زوجها أو صبياً من أيدى أبويه، وذلك بقصد التسلية واللهو وكسر رتابة الأيام!. وضج الرعية بالشكوى من انفلات أبناء الأعيان وفجورهم وتقدموا للسلطان البيكيكى بالمظالم، يشكون إليه إجرام أصدقائه ورجاله،

وقد هددوا بالثورة والخروج على السلطان، وبعثوا إليه من يذكره بما حصل فى بلنسية عندما دخلها «أبوجميل زيّان سليل اَل مردنيش» فى حماية الجمهور وعقد البيعة لنفسه وخلع السيد أبوزيد الموحدى والى المدينة الذى لم يجد بداً من اللجوء للملك خايمى ومعه كاتبه ووزيره ابن الأبار، ومما يذكر لإبن الأبار أنه ظل يستصرخ ملوك وأمراء المسلمين لنجدة الثغور التى أخذت تتساقط الواحدة تلو الأخرى،

وكانت سينيّته الرائعة نموذجاً مبكياً وكأنها نفثة الأندلس الجريح ألقاها بين يدى الأمير أبى زكريا الحفصى سلطان دولة بنى حفص بتونس ومطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا..إن السبيل إلى منجاتها درساً. وهب له من عزيز النصر ما التمست.. فلم يزل منك عز النصر ملتمساً.

لكن السلطان البيكيكى على العكس من السيد أبوزيد الموحدى كان مطمئناً لاستتباب حكمه، وكان الصلح الذى عقده مع ملك قشتالة والجزية التى يؤديها إليه، والقشتاليون الذين يحرسونه تجعله يشعر بالقوة، فضلاً عن إحكامه الرقابة على رجاله، فكان ينشئ عسساً على العسس، كما كان يعتقد دائماً أن الرعية لديه أهون من أن يتعدى جهدهم الكلام، وإن كان من وقت لآخر يقوم بإلقاء حوت من الحجم المتوسط من السفينة، أما الهامور الوحشى فدونه خرط القتاد!.

لهذا فقد اعتقد حراس السجن أن الأمر كله لا يخرج عن كونه حيلة أو مزحة من مزحاتهم الملعونة، سيكون لها بالتأكيد ضحايا، وقد خشى كل منهم أن يكون من بين هؤلاء الضحايا، وظنوا أن اللعبة بعد أن تنتهى سيخرج عليش من البوابة وضحكاته تشق الفضاء،

وبعدها سيتفرغ للانتقام من كل من أساء إليه أو حتى نظر إليه بشماتة. لهذا فقد حرصوا على معاملته كأحسن ما تكون المعاملة. أيضاً الأموال التى كانت تصل إليهم من والده الكوارشى الكبير، ذلك الرجل المُسن الذى لم يمنعه فراش المرض من الاهتمام بولده الوحيد ومؤازرته فى مصيبته، كذلك نفوذ البندريّة شقيقته وقدرتها على إخضاع الجميع.. كل هذ كفل لهمام إقامة مرفهة داخل السجن فى انتظار الحكم.

أما بالنسبة للمطجن البصاص فقد كان الأمر مختلفاً تمام الاختلاف. لقد لقى منذ اليوم الأول معاملة شديدة الفظاظة والقسوة. كان معروفاً أن أمواله قد تمت مصادرتها بعد العثور عليها مدفونة تحت كانون النار فى صحن داره، لكن رجال السجن لم يصدقوا أنه لا يخفى كنزاً فى مكان آخر لم تصل اليه يد البصاصين، وطمع كل منهم فى أن يكون له نصيب فى الكنز،

لهذا فقد قاموا بجلده من أول لحظة، عسى أن يظفروا منه باعتراف سريع، لكنه كان شديد الجلد، وأقسم لهم أن المال كله قد صودر، ولو كان يملك شيئاً منه لافتدى نفسه، فلما يئسوا منه أودعوه عنبراً كبيراً شديد القذارة، به عشرات السجناء، الذين تُركوا يفترسهم الجرب والجزام.

وكان من ضمن نزلاء العنبر بعض من ضحاياه الذين استقبلوه لدى دخوله استقبالاً حافلاً باللكمات والركلات والصفعات، فكسروا أسنانه ولم يتركوه إلا وهو عاجزاً عن الأنين، ومن يومها صار خادماً للجميع داخل العنبر.

ولم يشفع له زمالته لحراس السجن كبصاص قديم، إذ أنهم لم ينسوا غطرسته القديمة وتيهه عليهم، بانتسابه إلى فرقة الجندرمة القريبة من الحكام وكبار التجار والأعيان، وعدم تورعه عن إيذاء زملائه.

وكان أبناء هذه الفرقة مرهوبون حتى من زملائهم بسبب أن قائد الفرقة أبوالحسن المراكبى كان يتخير الرجال وفى باله صفات لا يمكن التنازل عنها فى المتقدم، من أهمها الغدر!. هذا غير سبب آخر جلب على المطجن نقمة رجال العسس بجميع الفروع، وهو أنهم نفسوا عليه الفرصة التى واتته بأن يكون هو صاحب الحظوة لدى رجل ثرى وسفيه مثل همام الكوارشى، وأن يتم تكليفه بهذه المهمة السهلة، وكل منهم كان يعتقد جازماً أن المهمة لو أوكلت إليه،

لقام بها على أكمل وجه وفاز بالجائزة. أما هذا المطجن المتطاوس فلم يجلب لهم سوى الخزى والعار ليس لكونه مجرما أثيماً، وإنما أن يكون بكل هذه الرعونة والنزق، فيترك وراءه شريطاً من الآثار سهّلت القبض عليه.

كان على المطجن أن يجد حلاً لهذه المعضلة.. لقد أنهكوه ضرباً ولم يعد يحتمل المزيد، والأيام مازالت حبلى بهوان أشد. بعد طول تفكير وجد أنه لابد أن يستعين بالمال الذى خبأه على نوازل الأيام، فقرر أن يبوح بجزء من الحقيقة بشأن أمواله ويخبر السجناء والحراس بأمر المال.

فأطلق وسط المساجين أقاويل عن كنز مخفى له خارطة يحفظها فى قلبه، قوامه الأموال التى جمعها من البرطلة طوال السنين، علاوة على الجواهر التى كان يسرقها من مخدومه أيام كان يتركه طليقاً بالبيت، عدا عن المكافأة الضخمة التى اقتنصها منه ولم تستطع الشرطة سوى العثور على جزء صغير منها.

والحقيقة أن المطجن البصاص كان يحتاط للأيام، فأودع جانباً لا بأس به من أمواله فى صندوق نحاسى ختم عليه وخبأه بقاع نهر «تجاريتى» وربطه بحجر بين الصخور. فهل يكون ذلك الصندوق هو وسيلته للفرار من سجن «الأدغم» الرهيب، واسترداد حياته من جديد؟

Monday, November 24, 2008

أسامة غريب يكتب: همّام وإيزابيلا (٣)المحاكمة

أسامة غريب يكتب: همّام وإيزابيلا (٣)المحاكمة

٢٤/ ١١/ ٢٠٠٨

فى اليوم الأول للمحاكمة صحت مدينة «قرمونة» عن بكرة أبيها، وبدأ الناس يتوافدون إلى «دار بخشوان» على أطراف المدينة وهى مقر قاضى القضاة «ابن عقيل الأندلسى» كانت عبارة عن حصن بناه «المرابطون» لحماية المدينة،

والآن بعد توقيع الصلح مع ملك قشتالة تم اتخاذه مقراً لدار القضاء، وفى أكبر قاعاته ستجرى محاكمة التاجر همام بن عليش الكوارشى والمطجن البصاص. المكان فسيح ويسمح لأعداد غفيرة من الجمهور بالجلوس ومتابعة المحاكمة.

كان رجال همام والمنتفعون بقربه قد بذلوا جهوداً مضنية عقب القبض عليه من أجل جلب تعاطف العامة معه، وسلكوا فى ذلك مسالك عدة، إذ دفعوا بسخاء للحكائين ورواة السير فى المقاهى والأسواق، كما أجزلوا العطاء للمنشدين وعازفى الربابة حتى يشرعوا فى التأليف السريع للأغانى والموشحات التى تتغنى بكرم وجود وسلامة أصل همام بن عليش وطيب محتده. أما القاتل المأجور المطجن البصاص فلم يجد من يغنى على الربابة من أجله.. فالمجرمون درجات.

ولقد شخص المطجن ببصره نحو الأفق الممتد من داخل القفص، انتظاراً لقدوم قاضى القضاة. تذكر المطجن نشأته الأولى وملاعب صباه فى «درب التركمانى» حيث ولد وعاش طفولته، فلما اشتد عوده وبلغ الحلم، ألحقه أبوه بخدمة أحد الوجهاء،

فعانق الأٌبهة منذ الصغر ونقم على الظروف التى وضعته فى خدمة الأعيان، وتمنى أن يأتى اليوم الذى يعمل عنده حراس أشداء يقومون هم على خدمته والسهر على راحته، بدلاً من أن يظل طوال حياته عبداً لمن لا يدانوه قوة وسعة حيلة،

وظل هذا الحلم يلازمه حتى بعد أن التحق بفرقة الجندرمة وعاث مع قواده وزملائه بطشاً وتنكيلاً بالعباد، ولم تكن المبالغ التى يتحصل عليها من البرطلة وفرض الإتاوات فى الأسواق تشبع نهمه إلى المال. كان يرى التجار الكبار يمتلكون البلد بما عليه ويبدلون النساء كما يبدلون الأردية، ورآهم كلهم تحت مظلة السلطان يُظهرون الخضوع لمملكة قشتالة وملكها فرناندوالثالث ويعملون فى خدمته ويتآمرون ضد المسلمين.

وكانت اللحظة الفارقة فى حياته عندما وجد السلطان البيكيكى يشارك بقوة من فرسانه فى حصار إشبيلية كجنود فى جيش القشتاليين، مما سهل سقوطها السريع، فقرر المطجن أن يتأسى بأسياده ويفعل أى شىء مجنون فى سبيل المال . ولم يكن البصاص يُظهر للنساء نفس النهم إلى المال، إذ اعتقد أن الثراء عندما يجىء ستأتى معه الحسناوات طائعات، فقام بتأجيل الرغبات الطبيعية إلى ما بعد الثروة!

كانت متعته الوحيدة تناول أقداح البوظة فى دكان «أليخاندرو»، ثم وضعته الأقدار فى خدمة الكوارشى، وتذوق البورجوندى الفاخر ثم حظى دون غيره بثقة الشهبندر، وظن أن تحقيق الحلم قد صار إليه أقرب مما يظن، فإذا بحبل المشنقة هو القريب!.

دخل القاضى ابن عقيل إلى المحكمة فنادى الحاجب بصوت جهورى وقام الجمهور وقوفاً لقاضى القضاة الذى كان ذا شموخ ومهابة وطلة تبعث على التقدير، وكان معروفاً بالنزاهة والصرامة فى الحق. نادى الحاجب على الشاهد الأول: أبوالحسن المراكبى. تقدم أبوالحسن من القاضى وأقسم أن يقول الحق. القاضى: ماذا تعرف يا أبا الحسن عن القضية؟

أبوالحسن: لقد عهدوا إليّ يا فضيلة القاضى بتمحيص عدد كبير من الرسائل باعتبارى قائداً لفرقة الجندرمة. قاطعه القاضى: آى رسائل؟. قال أبوالحسن: كانت هذه الرسائل قد أتت بصحبة كبير البصاصين بإمارة الساحل البندقى وهى عبارة عن مراسلات متبادلة بين همام الكوارشى وبين البصاص المطجن عثروا عليها بأرجل الحمام بعد أن أطلقوا نبالهم عليه.

واستطرد الشاهد: وهناك بعض الرسائل كان يغطيها الدم تم العثور عليها فى جيب الرداء الذى وجده أحد الزبالين داخل قفة فى الخرابة خلف بيت المغنية إيزابيلا بمدينة الحميراء.

وهنا سـأله القاضي: وكيف علمت بهذه التفصيلات عن الرسائل المدمّاة؟ أجاب الشاهد: لقد قرأت كل هذه التفصيلات فى الأوراق الواردة من الساحل البندقى وبها تفصيلات التحقيقات التى قامت بها شرطتهم، وكانت للحق عوناً لنا. قال القاضى ابن عقيل: وأنى لك أن تعرف إذا كانت هذه الرسائل خاصة بالمتهمين؟ قال الشاهد: لقد قمنا باستكتابهما يا فضيلة قاضى القضاة وتحققنا من خط كل منهما، وتأكدنا من اشتراكهما فى الجريمة.

قال القاضى: وكيف تأكدتم؟. أجاب: الرسائل كانت واضحة وتحمل تعليمات من الكوارشى بسرعة إنهاء العملية، وكان الرد يدعوه للصبر وانتظار الأخبار السارة.

وفى إحدى الرسائل يا فضيلة القاضى اقترح الكوارشى على المطجن أن يدبر لإلقائها من سطوح البيت عندما تصعد لسقاية أصص الزرع (وهى نفس طريقة التخلص من الشريف ابن مروان الذى لم يعثر على قاتله حتى اليوم) قاطعه القاضى: دعنا من الشريف بن مروان وأكمل شهادتك.

قال أبوالحسن: ويوجد أكثر من رسالة يستفسر فيها المطجن عن المال ويتعجل تجهيزه، وهناك رسالة أخرى كتب فيها المطجن: «تم المراد» ومن الواضح أنها كانت بعد أن ارتكب جريمته. قال القاضى فى حدة: ليست مهمتك أن تقرر إذا كان قد ارتكب الجريمة أم لا..أنت هنا لتشهد بما تعرفه فقط..فاهم؟. قال المراكبى وقد بدا عليه الخوف رغم شراسته البادية: حاضر يا فضيلة القاضى.

بعد انصراف الشاهد فوجى الجمهور بالمدعو مهيار السيسى وهو تاجر وطالب علم شرعى فى نفس الوقت يرفع صوته ويطلب الكلمة، فلما أذن له القاضى، طالب بعلو الصوت بضرورة حضور كبير البصاصين ليمثل أمام المحكمة شاهداً، فلما رأى دهشة الجمهور أخذه الحماس

وقال: بل إننى أطلب حضور السلطان نفسه لنستمع إلى شهادته فى القضية، باعتباره يعرف همام الكوارشى جيداً. عند هذا الحد طلب القاضى استراحة قصيرة تستأنف بعدها المحاكمة.

فى هذه الأثناء كان همام يمسك بحديد القفص وهو زائغ العينين ينظر بشغف نحو الباب كأنما يتطلع لقدوم أحد كان ينتظره . ولم يهدأ إلا مع سريان همهمة بين الناس لدى رؤيتهم « البندريّة» شقيقة همام الكبرى تدخل القاعة وتخطو نحو القفص وتقف مع همام تتبادل معه حديثاً هامساً وهو يستمع إليها فى شغف.

كانت البندرية بهية الطلعة، تبدو عليها سيماء الرفعة، معروفة بالفصاحة وقوة الشكيمة وهى التى تتولى الآن إدارة أملاك العائلة والإشراف على وكالات الكوارشى للتجارة والمقاولات. كان من الواضح أنها تحمل إليه أنباء طيبة لأن علامات الطمأنينة بدت على محيّاه بعد التحدث إليها.. ناولته بعض الطعام وابريق ماء فأكل وشرب، بينما كان المطجن ينظر فى نهم إلى الطعام عسى أن يمنحوه شيئاً منه.

ومن الواضح أن البندرية قد دفعت كثيراً للحراس الذين يتعيشون على أموال موال «البرطيل»، لأنهم سمحوا لها بالتحرك بحرية داخل القاعة وأفسحوا لها المجال لتنفرد بهمام كيفما شاءت، وقد أعطته أوراقاً قرأها على عجل ثم ردها إليها. ثم انتبهت القاعة لصوت الحاجب يعلن مرة ثانية استئناف الجلسة ودخول قاضى القضاة ابن عقيل الأندلسى.

أسامة غريب يكتب: همّام وإيزابيلا [٢]

ماذا بعد القبض على المطجن والكوارشى؟

١٩/ ١١/ ٢٠٠٨

انتفضت ممالك وإمارات الأندلس حزناً ولوعة بعد أن علم الناس بمقتل المغنية إيزابيلا ابنة تمام الرومى، وقضائها نحبها بهذه الصورة البشعة على يد القاتل المأجور المطجن البصاص.

وقد رثاها الشعراء بأجمل القصائد، وأخذ الرواة يحكون سيرتها على الربابة، ويرددون أغانيها التى شاعت ومنها نونية ابن زيدون الشهيرة: أضحى التنائى بديلاً من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا.

وحصلت فتنة بين الناس، وزاد من قتامة الصورة العلم بأن الجريمة قد تمت لحساب همام بن عليش الكوارشى الثرى المترف ابن الأثرياء وصاحب المدائن العامرة.

وأسقط فى يدهم لإدراكهم أنه يقع تحت الحماية المباشرة للسلطان البيكيكى نفسه وولى عهده حسان. لكن قرار السلطان بالقبض على عليش (وهو اسم التدليل الذى عرف به همام بين أصدقائه) نزل على الناس برداً وسلاماً.

وقد حار الناس فى تفسير أسباب احترام القانون السلطانى فى واحدة من المرات النادرة التى تحدث على زمن البيكيكى، والتضحية بابن الأكابر الذى كثيراً ما انتهك قانون السلطنة من قبل دون أن يمتد إليه إصبع. وتناقل الناس فى ذلك روايات شتى، لكن أكثرها قرباً من الحقيقة كانت الرواية التى عزت القبض على عليش إلى التدخل الخشن لفارس المختوم حاكم إمارة الساحل البندقى الذى وقعت الجريمة على أرضه وبين ظهران أهله.

ومن المعروف أن الإمارة فى عهده قد شهدت حالة من السلام أتاحت له أن يقوم بالكثير من أعمال التشييد والبناء فانتعشت التجارة واتسعت الأسواق وازدهرت الفنون وعم الرخاء بعدما قام بتشييد مدينة الحميراء فوق جزء من البحر فكانت مقصداً للأثرياء من كل البلاد للاستجمام وارتياد الأسواق والتمتع بالغناء والرقص والطرب،

وكانت أيضاً مقصداً للجوارى اللاتى فررن من موسكو والمدن المجاورة فى عهد «إيفان الأول» المعروف بإيفان كاليتا وهو غير إيفان الرابع المشهور باسم إيفان الرهيب، وكانت بعضهن للغرابة تتمتعن بعلم كبير فى الرياضيات والكيمياء إلى جانب فنون الرقص والخلاعة!

لم يفهم المطجن البصاص وهو يرتكب جريمته الشنعاء أنه يزلزل كيان الإمارة الهادئة التى لا تعرف جرائم من هذا النوع. وزاد الطين بلة ما رصدته إمارة الساحل البندقى من علامات لا تخطئها العين لمحاولة إخراج الكوارشى من الموضوع وتحميله للمطجن وحده.

ومن هذا ما قام به المنادون الذين انتشروا فى المدن يذيعون بين الناس خبر الوقف الخيرى الكبير الذى وقفه همام الكوارشى من أجل الفقراء، كذلك عزمه على إنشاء وكالة الوداد والعفاف ومنح بيوت للفقراء يتزوجون بها فى مدينة السحاب!!.

من أجل هذا كله فقد تعامل فارس المختوم مع الأمر بأقصى جدية ممكنة وأقسم ألا يسمح بأن يفلت الجناة من العقاب، واعتمد على أياديه البيضاء السابقة على السلطنة، كذلك راهن على الحكمة المعروف بها السلطان البيكيكى الذى نجح دائماً فى تعويم البلاد وسط الأنواء والخروج بالعرش سليماً وبالبلاد كسيرة مثخنة بالجراح.

أتت الرياح إذن بما لم تشته المراكب، ووجد السيد همام بن عليش الكوارشى نفسه فى القفص متهماً بجريمة عقوبتها الإعدام وهو من هو.. عين أعيان أشبيلية، فخر المدينة وأمل العائلة وصديق السلطان وولده. ما الذى حدث؟ هكذا سائل نفسه وهو ينظر نحو المطجن فى القفص.

لقد كان يتصور أن المطجن البصاص هو رجل المهام الصعبة القادر على اجتراح المعجزات، وكان يعتقد أن معاركه على الثغور وقتاله لصد البرتغاليين والأسبان الذين ما فتئوا يغيرون على الحدود قد أكسبته حنكة ودربة وقدرة على التخطيط السليم، لكن يبدو أن ميل السلطان البيكيكى إلى مهادنة الفرنجة والتحالف معهم ضد الأشقاء قد نال من أمثال المطجن فإذا به خائب مذعور، يملك حقاً قلباً من صخر وضمير ميت، لكنه لا يملك عقلاً على الإطلاق.

وتعجب همام كيف يترك هذا القاتل المحترف وراءه أذيالاً بطول المدينة، ودلائل تكشف عن شخصيته بسهولة وهو الذى اشتغل وقت السلم النسبى والفراغ من الحرب بفرقة الجندرمة، أقوى فرق الشرطة وأكثرها تنظيماً، تلك التى عصفت بالسكان وروّعتهم ونشرت بينهم الفزع والرعب.

ترى هل أبطره المال وأسكرته النعمة؟ هل فقد حسه الأمنى كبصاص عتويل وضاع منه حذره الغريزى وثقته المعدومة فى كل البشر؟ وكيف بالله يعترف بالجريمة بهذه السهولة ويقر بكل شئ ويتطوع بسرد تفصيلات ما كانوا يعرفونها أبداً لولا اعترافه الغبى.

هل خشى أن يُجلسوه على المقشرة ويذيقونه ألواناً من العذاب هو يعرفها كلها، وبعضها على أى حال مسجل باسمه فى كتاب الرعب الذى كان دليلاً يتعين دراسته لمن شاء أن ينتمى لفرقة الجندرمة؟ هل اشترى نفسه بالاعتراف وحمى جلده من السلخ كما حمى أباه المسن من التنكيل؟.

لم تكن هذه هى كل الأسئلة التى نهشت الفتى المدلل الذى كان أحب أبناء والده وأكثرهم قرباً من قلبه، والأمين على ثروة العائلة. كان السؤال الجارح الذى يفترسه هو: كيف هان على السلطان البيكيكى فوافق أن يلقى به فى السجن بعد أن كان من ندمائه المخلصين ومن أقرب الأصدقاء لحسان ابنه الوحيد ووريث عرشه. لا شك أنه تعرض لضغوط كثيفة، ولا شك أيضاً أنه لن يتركه فى محنته هذه طويلاً..هكذا حدّث نفسه.

لقد كان قانون السلطنة غير المكتوب يقضى بأن رجال الحاشية لا خوف عليهم ولا هم يُسجنون مهما فعلوا، مهما أجرموا وعاثوا فى الأرض فساداً وقتلاً وسلباً ونهباً، وهو على أى حال ليس القاتل الأول ولن يكون الأخير.

هل نسوا أحمد أبوالعيون تاجر البلاط (بلاط السلطنة وبلاط الأرضية) الذى قتل شاباً بريئاً عند شاطئ جبل طارق كان كل ذنبه أنه أراد أن يستحم فى البحر فصدمه بالمركب الذى ترك قيادته لطفله الصغير؟

هل نسوا مديح أبوإسماعيل القرصان الذى كان يجوب البحار ويجلب الغنائم والأسلاب للسلطان عندما أغرق فى البحر ألفاً من أهل «سبتة» ثم قبض الثمن من أوجستين لويد؟

أم تراهم قد نسوا مسرور بن هانئ طبيب القصر الذى عالج الناس بحقن شرجية ملأها باللبن المخلوط بروث البهائم. هل نسوا الوالى يوسف الذى استنبت شتلات مسمومة جلبها من الملك فيليب أعدى أعداء المسلمين فنشرت الطاعون بين الناس وحصدت من الأرواح فى زمن السلم ما عجزت عنه الحروب..

كل هؤلاء وغيرهم، هل حاكمهم أحد، هل وقفوا فى قفص الاتهام مثله وصاروا مضغة فى أفواه الحرافيش والجعيدية والزعر؟. فمتى تغير القانون إذن الذى يحكم العلاقة بين السادة والأعيان وكبار المُلاك فى السلطنة ويمنع محاسبتهم مهما فعلوا.

كان همام يجز على أسنانه والأسئلة تنهشه نهشاً وهو يتذكر عز الدين أنكش عدوه اللدود الذى يشبه الحية الرقطاء فى لدغته والذى لم يكف عن الكيد له عند السلطان البيكيكى حتى إنه أعلن فى مجلس التجار عن حجم ثروة همام التى صنعها من بناء مدينة السحاب مقارنة بمكاسبه هو المحدودة وقوافله التى كثيراً ما تتعرض للسلب على يد قطاع الطرق،

وأيقن أن أنكش لا شك يقف بقوة وراء هذا كله. ثم تذكر إيزابيلا الجميلة التى لم يعرف الحب إلا بين ذراعيها وفاضت عيناه بالدمع وهو يتذكر أيامه معها ويستعرض كل ما فعله من أجلها وعصف به التساؤل المرير: ماذا كان ينقصه حتى تحبه إيزابيلا كما أحبها؟

وما كان ضرها لو بقيت معه ولم تأخذ أمواله وترحل بليل، إذن لحقنت دمها الذى سال وحفظت حياتها التى ضاعت وبقيت فى قصره تغنى له وحده من قصائد ابن زيدون وتملأ حياته بالسعادة، لكنها اختارت أن تبيعه وتنفق أمواله على بلطجى يزعم أنها زوجته ويريد أن يرثها، مثله مثل زوجها الأول عتوقة الذى يصر هو الآَخر على أنها زوجته هو وحده.

لكم تمنى عليش من قلبه أن تكون هذه الأحداث مجرد كابوس يصحو منه فيجد نفسه فى القصر ومحبوبته فى حضنه..لكن أيقظه من خيالاته صوت سعال المطجن بجواره فى القفص، ونظر نحوه فوجد نفس الابتسامة مازالت ترتسم على وجهه فشعر بغضب شديد وود لو استطاع أن يفتك بذلك الغشوم الذى أضاع نفسه وأضاع معه همام بن عليش الكوارشى.

همّام وإيزابيلا by أسامة غريب

أسامة غريب يكتب: همّام وإيزابيلا قصة غرام وانتقام.. بغباوة

١٨/ ١١/ ٢٠٠٨

البشرة الشقراء واللحم الأبيض والعيون الملونة كان لها الدور الأساسى فى انهيار وسقوط الدولة العربية فى الأندلس، حتى إن قصور الملوك والأمراء كانت تعج بالنساء الشقر.

وكان التفاخر والتمايز بين ملوك الطوائف يكاد ينحصر فى قدرة كل منهم على حيازة أكبر قدر من النحور والنهود والأذرع والسيقان البيضاء المصقولة المشربة بالحُمرة للشركسيات والروميات والشيرازيات وغيرهن.

وقعت أحداث قصتنا فى قضاء مجاور لأشبيلية فى أواخر عهد السلطان البيكيكى، الذى ضعفت قبضته على البلاد والتفت حوله حاشية من الوزراء ورجال البلاط والتجار، ولكل منهم أطماعه فى قضم قطعة من لحم السلطنة، أكبر من تلك التى فى فم زميله.

لهذا فقد كثر بينهم الدس والوقيعة لدى السلطان، الذى كان يدير التنافس بينهم على نحو يزكيه ويبقى أواره مستعراً بينهم، ممسكاً بين يديه بالميزان الذى يضمن أقصى عدالة فى نشر الفساد وتوزيعه بينهم بالقسط. فى هذه الأجواء برز نجم بطلنا «همام الكوارشى» واقترب من قلب العرش وعقله، لهذا فقد أقطعه السلطان مساحة مهولة من الأرض بدون مقابل، بنى عليها مدينة عظيمة سماها مدينة «السحاب»، وباع بيوتها الجميلة، التى تحوطها الحدائق الأندلسية الرائعة وتتوسطها النوافير، للأمراء والكبراء والأعيان، وحقق من ورائها ثراء عظيماً.

كان همام مثل غيره من شباب التجار المرتبطين بالقصر مولعاً بالنساء، وكان التنافس على أشده بينه وبين غريمه «عز الدين أنكش» تاجر الخردة الذى نمت ثروته بسرعة الشياطين، لكنه لحسن حظ همام كان مشغولاً إلى جانب النساء بطموح سياسى ليس له سقف استغرق جُل وقته، الأمر الذى مكن همام الكوارشى من الفوز بعدد لا يستهان به من الجوارى ملأن عليه حياته أنساً وبشراً وسروراً.

حتى كان اليوم الذى وقعت عيناه على الحسناء إيزابيلا، فنظر إليها نظرة أورثته ألف حسرة، وعقد العزم على الظفر بها مهما كلفه الأمر. كانت إيزابيلا ابنة التاجر ألفونسو الذى عُرف باسم «تمام الرومى»، وقد قدمت مع والدها وشقيقها من بلدة «مقريط» (مدريد حالياً) للغناء فى قصور السلطنة، حيث تمتعت بصوت عذب شهد له كل من استمع إليها، وكانت ذات غنج ودلال. ويقال إنها كانت صديقة للشاعرة الأندلسية «ولادة بنت المستكفى» لكن والدها على العكس من أبى ولادة لم يكن «مستكفياً» من المال أبدا، وكان يعتبر إيزابيلا استثمار عمره،

لهذا فقد زوّجها من رجل عربى يقال له «عتوقة» ظاناً أنه ذو ثراء، لكن خاب مسعاه عندما عرف أن عتوقة مفلس، ويريد أن يحقق الثراء هو أيضاً من خلالها، فهرب بها إلى السلطنة أملاً فى الحياة الناعمة بمدينة التجار. اشتهرت إيزابيلا وذاع صيتها بعد أن غنت من أشعار ولادة الأبيات التى تقول: «أنا والله أصلح للمعالى.. وأمشى مشيتى وأتيه فيها. وأُمكّن عاشقى من صحن خدى.. وأعطى قبلتى من يشتهيها». طار لب همام عندما استمع إليها وتمكن غرامها من فؤاده، فعرض على أبيها أن ينتقلا للعيش فى كنفه بأحد القصور التى يملكها حيث سيبسط عليهما رعايته وحمايته.

فى هذا القصر قضى همام بصحبة إيزابيلا أجمل أيام العمر، وعندما عرف أن زوجها «عتوقة» يسعى وراءها طمأنهما بألا يقلقا لأنه سيتكفل به، ويقال إنه دفع للزوج مبلغاً كبيراً من الدنانير حتى يقوم بتسريح إيزابيلا بإحسان، ويقال أيضاً إن عتوقة أخذ المال، ولم يلتزم بتطليقها، مما جعل همام يفقد صوابه ويهدده بالقتل.

فى الوقت نفسه كان «تمام الرومى» يتقاضى جُعلاً شهرياً ضخماً من مضيفه الكريم، وكانت الحسناء الرومية تغرف من الجواهر واللاَلئ وتعُب من المال عباً. وحدث فى أحد الأيام أن كان تمام الرومى عائداً من رحلة إلى قرطبة، وعند الحدود استوقفه العسس، وقاموا بتفتيشه، حيث عثروا معه على خمسين جراماً من القلقشند المطحون. اعترف تمام بحيازة القلقشند بقصد التداوي، وتم تحويله إلى التحقيق.

عندما علم التاجر همام بما حدث أسرع بالتوسط له عند كبير البصاصين فأطلق سراحه. وفى يوم آخر وصل إلى سمع همام أن جريمة قد وقعت فى قصره فأسرع يستطلع الأمر، واكتشف أن «خورخى» شقيق إيزابيلا قد قام بإلقاء إحدى الجوارى من فوق سطوح القصر بعد أن قضى منها وطراً وإن المسكينة قد لقيت حتفها على الفور.

ومرة ثانية يتدخل الشهبندر همام لحماية خورخى ومنع يد العدالة من الوصول إليه. بمرور الأيام صارت إيزابيلا هى كل حياته واشتدت غيرته عليها وتقييده حركتها، فإذا عاد ولم يجدها اشتعل غضباً، وإذا نظرت لأحد جن جنونه. وبالنسبة لها لم يكن هو أكثر من الممول النافذ المطاع الذى يستطيع تحقيق الأحلام المادية، أما الحب فشىء آَخر. لهذا فقد ضاقت بجنونه واشتاقت للحرية والشهرة والإنطلاق.

وذات يوم صحا فلم يجدها. كانت قد رحلت وانطلقت إلى بلاد الغال. أرسل لها الرسل يستعطفونها فلم تستجب. عرض عليها مخزونه من الذهب والياقوت فما ألقت بالاً، ثم علم من عيونه المنتشرة أنها على علاقة برجل، وأنها تنفق عليه بسخاء. هنا كان لا بد من وقفة..وقفة يستجمع فيها كل ما يستطيع من زرقة الأنياب القديمة التى نسيها بعد أن رقق الحب قلبه، حتى إنه سما بمشاعره ولم يعد يكره عز الدين أنكش غريمه العتيد!.

أخذ همام قراراً لا رجعة فيه بأن يقتلها حتى لا تكون لغيره. قضى الليل فى حمام الغوطة بصحبة أصدقائه ورجاله. من بين البخار المتصاعد استمع إلى اقتراح من صديق بأن يستعين بأحد الرجال الأشداء ممن يعملون فى خدمته لإنجاز المهمة. اقترحوا عليه اسم «المطجّن البصاص».. كان المطجن فى السابق من ضمن فرقة الجندرمة بالمدينة وعُرف بالقسوة والشراسة،

ولهذا أوكلوا إليه العمل على حماية الأعيان وأبنائهم. لكن مع اندماجه وتواجده المستمر فى صحبة الأثرياء وعائلاتهم، حيث الأسمطة الممتدة، والأصناف الفاخرة من الطعام والشراب واللهو كره المطجّن وظيفته وتاقت نفسه إلى حياة الدعة والترف، حيث يستطيع أن يشرب من أقداح البورجوندى كما يشاء دون أن تصده عن الشراب مقتضيات الوظيفة. لهذا فقد طلب من كبير البصاصين إعفاءه.. وقد كان. بعد هذا عمل فى واحدة من وكالات همام،

وأوكلت إليه العديد من المهام فأنجزها على أحسن وجه.لهذا فقد أرسله همام إلى بلاد الفرنجة لمتابعة إيزابيلا ومحاولة القضاء عليها. وكانت الرسائل بينهما لا تنقطع عن طريق الحمام الزاجل. عاد المطجن من رحلته وأخبر مخدومه بأن الجميلة قد غادرت بلاد الغال واستقرت بإمارة الساحل البندقى عند الأمير «فارس المختوم» المعروف بفروسيته وعشقه لسباقات الخيل والهجن. ازداد همام تصميماً على قتل إيزابيلا حتى لو اختبأت فى قمقم.

قام بتزويد «المطجن» بالمال ودفع له مليون جنيه مجيدى ومليونين من الدنانير الذهبية، عدا عن أربعين صاعاً من الزمرد، ودعا له بالتوفيق. وصل المطجن إلى مدينة الحميراء بالساحل البندقى ولم يضع وقتاً. قصد إلى بيتها ودار حوله، ودرس مداخله ومخارجه ثم قضى ليلته فى خان «أبومنصور»،

وفى الصباح قصد السوق، حيث ابتاع سكيناً باتراً ذا نصل شديد المضاء ثم اشترى عمامة وعباءة من الحرير واتجه صوب المنزل الذى استأجرته وصعد الدرج، وتظاهر بأنه السقا قد حضر ليملأ الأزيار والأوانى. فلما اطمأنت إيزابيلا وفتحت الباب عاجلها بطعنة فى صدرها ثم استمر فى الطعنات، ومن بين مقاومتها اليائسة قام بحز عنقها فسقطت على الأرض فى بحر من دمائها. وقام المطجن بتغيير ثيابه الملوثة ووضعها فى «قفة» ألقى بها فى خرابة خلف البيت.

بعد أن عاد إلى النُزُل الذى يقيم به أطلق حمامة رابطاً فى ساقها رسالة إلى همام يقول فيها إن المهمة أنجزت. تم اكتشاف الجريمة فى الحميراء بعد وقت قليل، وتم استنفار جميع البصاصين والعسس بالمدينة، وبعد عدة ساعات استطاعوا تحديد القاتل وانطلق فرسانهم فى أثره، لكنه كان قد عبر الحدود وعاد إلى الديار. كانت شرطة الحميراء قد أسقطت بعض الحمام الحامل للرسائل بين همام والمطجن، ثم أرسل حاكم إمارة الساحل البندقى بالقضية كاملة إلى صديقه السلطان البيكيكى وطالبه بالقبض على المجرمين.

فى هذا الوقت قامت قوات الجندرمة بالقبض على المطجن، فاعترف بكل شىء. وسرت شائعات بين الناس فى المدينة بأن همام أكبر من القانون بحكم قربه من السلطان, وصداقته بابنه الوحيد وولى عهده حسّان. لكن السلطان البيكيكى فاجأ عموم الناس فى السلطنة وأصدر أوامره بالقبض على «همام الكوارشى». وانعقدت المحكمة برئاسة قاضى القضاة «ابن عقيل» ووقف همام فى القفص ولاحت منه التفاتة إلى المطجن الذى ابتسم له، لكن همام لم يبتسم ولسان حاله يقول: الله يخرب بيتك يا غبى!