Monday, November 24, 2008

أسامة غريب يكتب: همّام وإيزابيلا [٢]

ماذا بعد القبض على المطجن والكوارشى؟

١٩/ ١١/ ٢٠٠٨

انتفضت ممالك وإمارات الأندلس حزناً ولوعة بعد أن علم الناس بمقتل المغنية إيزابيلا ابنة تمام الرومى، وقضائها نحبها بهذه الصورة البشعة على يد القاتل المأجور المطجن البصاص.

وقد رثاها الشعراء بأجمل القصائد، وأخذ الرواة يحكون سيرتها على الربابة، ويرددون أغانيها التى شاعت ومنها نونية ابن زيدون الشهيرة: أضحى التنائى بديلاً من تدانينا.. وناب عن طيب لقيانا تجافينا.

وحصلت فتنة بين الناس، وزاد من قتامة الصورة العلم بأن الجريمة قد تمت لحساب همام بن عليش الكوارشى الثرى المترف ابن الأثرياء وصاحب المدائن العامرة.

وأسقط فى يدهم لإدراكهم أنه يقع تحت الحماية المباشرة للسلطان البيكيكى نفسه وولى عهده حسان. لكن قرار السلطان بالقبض على عليش (وهو اسم التدليل الذى عرف به همام بين أصدقائه) نزل على الناس برداً وسلاماً.

وقد حار الناس فى تفسير أسباب احترام القانون السلطانى فى واحدة من المرات النادرة التى تحدث على زمن البيكيكى، والتضحية بابن الأكابر الذى كثيراً ما انتهك قانون السلطنة من قبل دون أن يمتد إليه إصبع. وتناقل الناس فى ذلك روايات شتى، لكن أكثرها قرباً من الحقيقة كانت الرواية التى عزت القبض على عليش إلى التدخل الخشن لفارس المختوم حاكم إمارة الساحل البندقى الذى وقعت الجريمة على أرضه وبين ظهران أهله.

ومن المعروف أن الإمارة فى عهده قد شهدت حالة من السلام أتاحت له أن يقوم بالكثير من أعمال التشييد والبناء فانتعشت التجارة واتسعت الأسواق وازدهرت الفنون وعم الرخاء بعدما قام بتشييد مدينة الحميراء فوق جزء من البحر فكانت مقصداً للأثرياء من كل البلاد للاستجمام وارتياد الأسواق والتمتع بالغناء والرقص والطرب،

وكانت أيضاً مقصداً للجوارى اللاتى فررن من موسكو والمدن المجاورة فى عهد «إيفان الأول» المعروف بإيفان كاليتا وهو غير إيفان الرابع المشهور باسم إيفان الرهيب، وكانت بعضهن للغرابة تتمتعن بعلم كبير فى الرياضيات والكيمياء إلى جانب فنون الرقص والخلاعة!

لم يفهم المطجن البصاص وهو يرتكب جريمته الشنعاء أنه يزلزل كيان الإمارة الهادئة التى لا تعرف جرائم من هذا النوع. وزاد الطين بلة ما رصدته إمارة الساحل البندقى من علامات لا تخطئها العين لمحاولة إخراج الكوارشى من الموضوع وتحميله للمطجن وحده.

ومن هذا ما قام به المنادون الذين انتشروا فى المدن يذيعون بين الناس خبر الوقف الخيرى الكبير الذى وقفه همام الكوارشى من أجل الفقراء، كذلك عزمه على إنشاء وكالة الوداد والعفاف ومنح بيوت للفقراء يتزوجون بها فى مدينة السحاب!!.

من أجل هذا كله فقد تعامل فارس المختوم مع الأمر بأقصى جدية ممكنة وأقسم ألا يسمح بأن يفلت الجناة من العقاب، واعتمد على أياديه البيضاء السابقة على السلطنة، كذلك راهن على الحكمة المعروف بها السلطان البيكيكى الذى نجح دائماً فى تعويم البلاد وسط الأنواء والخروج بالعرش سليماً وبالبلاد كسيرة مثخنة بالجراح.

أتت الرياح إذن بما لم تشته المراكب، ووجد السيد همام بن عليش الكوارشى نفسه فى القفص متهماً بجريمة عقوبتها الإعدام وهو من هو.. عين أعيان أشبيلية، فخر المدينة وأمل العائلة وصديق السلطان وولده. ما الذى حدث؟ هكذا سائل نفسه وهو ينظر نحو المطجن فى القفص.

لقد كان يتصور أن المطجن البصاص هو رجل المهام الصعبة القادر على اجتراح المعجزات، وكان يعتقد أن معاركه على الثغور وقتاله لصد البرتغاليين والأسبان الذين ما فتئوا يغيرون على الحدود قد أكسبته حنكة ودربة وقدرة على التخطيط السليم، لكن يبدو أن ميل السلطان البيكيكى إلى مهادنة الفرنجة والتحالف معهم ضد الأشقاء قد نال من أمثال المطجن فإذا به خائب مذعور، يملك حقاً قلباً من صخر وضمير ميت، لكنه لا يملك عقلاً على الإطلاق.

وتعجب همام كيف يترك هذا القاتل المحترف وراءه أذيالاً بطول المدينة، ودلائل تكشف عن شخصيته بسهولة وهو الذى اشتغل وقت السلم النسبى والفراغ من الحرب بفرقة الجندرمة، أقوى فرق الشرطة وأكثرها تنظيماً، تلك التى عصفت بالسكان وروّعتهم ونشرت بينهم الفزع والرعب.

ترى هل أبطره المال وأسكرته النعمة؟ هل فقد حسه الأمنى كبصاص عتويل وضاع منه حذره الغريزى وثقته المعدومة فى كل البشر؟ وكيف بالله يعترف بالجريمة بهذه السهولة ويقر بكل شئ ويتطوع بسرد تفصيلات ما كانوا يعرفونها أبداً لولا اعترافه الغبى.

هل خشى أن يُجلسوه على المقشرة ويذيقونه ألواناً من العذاب هو يعرفها كلها، وبعضها على أى حال مسجل باسمه فى كتاب الرعب الذى كان دليلاً يتعين دراسته لمن شاء أن ينتمى لفرقة الجندرمة؟ هل اشترى نفسه بالاعتراف وحمى جلده من السلخ كما حمى أباه المسن من التنكيل؟.

لم تكن هذه هى كل الأسئلة التى نهشت الفتى المدلل الذى كان أحب أبناء والده وأكثرهم قرباً من قلبه، والأمين على ثروة العائلة. كان السؤال الجارح الذى يفترسه هو: كيف هان على السلطان البيكيكى فوافق أن يلقى به فى السجن بعد أن كان من ندمائه المخلصين ومن أقرب الأصدقاء لحسان ابنه الوحيد ووريث عرشه. لا شك أنه تعرض لضغوط كثيفة، ولا شك أيضاً أنه لن يتركه فى محنته هذه طويلاً..هكذا حدّث نفسه.

لقد كان قانون السلطنة غير المكتوب يقضى بأن رجال الحاشية لا خوف عليهم ولا هم يُسجنون مهما فعلوا، مهما أجرموا وعاثوا فى الأرض فساداً وقتلاً وسلباً ونهباً، وهو على أى حال ليس القاتل الأول ولن يكون الأخير.

هل نسوا أحمد أبوالعيون تاجر البلاط (بلاط السلطنة وبلاط الأرضية) الذى قتل شاباً بريئاً عند شاطئ جبل طارق كان كل ذنبه أنه أراد أن يستحم فى البحر فصدمه بالمركب الذى ترك قيادته لطفله الصغير؟

هل نسوا مديح أبوإسماعيل القرصان الذى كان يجوب البحار ويجلب الغنائم والأسلاب للسلطان عندما أغرق فى البحر ألفاً من أهل «سبتة» ثم قبض الثمن من أوجستين لويد؟

أم تراهم قد نسوا مسرور بن هانئ طبيب القصر الذى عالج الناس بحقن شرجية ملأها باللبن المخلوط بروث البهائم. هل نسوا الوالى يوسف الذى استنبت شتلات مسمومة جلبها من الملك فيليب أعدى أعداء المسلمين فنشرت الطاعون بين الناس وحصدت من الأرواح فى زمن السلم ما عجزت عنه الحروب..

كل هؤلاء وغيرهم، هل حاكمهم أحد، هل وقفوا فى قفص الاتهام مثله وصاروا مضغة فى أفواه الحرافيش والجعيدية والزعر؟. فمتى تغير القانون إذن الذى يحكم العلاقة بين السادة والأعيان وكبار المُلاك فى السلطنة ويمنع محاسبتهم مهما فعلوا.

كان همام يجز على أسنانه والأسئلة تنهشه نهشاً وهو يتذكر عز الدين أنكش عدوه اللدود الذى يشبه الحية الرقطاء فى لدغته والذى لم يكف عن الكيد له عند السلطان البيكيكى حتى إنه أعلن فى مجلس التجار عن حجم ثروة همام التى صنعها من بناء مدينة السحاب مقارنة بمكاسبه هو المحدودة وقوافله التى كثيراً ما تتعرض للسلب على يد قطاع الطرق،

وأيقن أن أنكش لا شك يقف بقوة وراء هذا كله. ثم تذكر إيزابيلا الجميلة التى لم يعرف الحب إلا بين ذراعيها وفاضت عيناه بالدمع وهو يتذكر أيامه معها ويستعرض كل ما فعله من أجلها وعصف به التساؤل المرير: ماذا كان ينقصه حتى تحبه إيزابيلا كما أحبها؟

وما كان ضرها لو بقيت معه ولم تأخذ أمواله وترحل بليل، إذن لحقنت دمها الذى سال وحفظت حياتها التى ضاعت وبقيت فى قصره تغنى له وحده من قصائد ابن زيدون وتملأ حياته بالسعادة، لكنها اختارت أن تبيعه وتنفق أمواله على بلطجى يزعم أنها زوجته ويريد أن يرثها، مثله مثل زوجها الأول عتوقة الذى يصر هو الآَخر على أنها زوجته هو وحده.

لكم تمنى عليش من قلبه أن تكون هذه الأحداث مجرد كابوس يصحو منه فيجد نفسه فى القصر ومحبوبته فى حضنه..لكن أيقظه من خيالاته صوت سعال المطجن بجواره فى القفص، ونظر نحوه فوجد نفس الابتسامة مازالت ترتسم على وجهه فشعر بغضب شديد وود لو استطاع أن يفتك بذلك الغشوم الذى أضاع نفسه وأضاع معه همام بن عليش الكوارشى.

No comments: