¨´'تابعت باهتمام شديد خطاب الرئيس مبارك في ختام أعمال المؤتمر العام للحزب الوطني، والذي ألقاه مساء الخميس الماضي. ضاعف من هذا الاهتمام أمران، الأول: حساسية المرحلة التي تمر بها مصر هذه الأيام، حيث تشير دلائل عديدة إلي أن حقبة توشك أن تصل إلي نهايتها المحتومة دخلت بالفعل مرحلة الأفول بعد أن راحت تدب فيها مظاهر الشيب والشيخوخة والعجز، وأن حقبة جديدة مفتوحة علي كل الاحتمالات توشك أن تولد. ومن الطبيعي أن يؤدي القلق علي المولود الجديد في تلك المرحلة الحساسة من مراحل المخاض، إلي اهتمام الكثيرين بمتابعة الخطاب لعلهم يجدون فيه بعض ما يطمئنهم علي مستقبل هذا البلد الأمين.
الأمر الثاني: تزامن الحدث عقب زيارة قمت بها مؤخرا للصين ضمن وفد المجلس المصري للشؤون الخارجية. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا التزامن إلي انشغال الذهن بالمقارنة بين تجربة «الإصلاح والانفتاح علي العالم الخارجي» في البلدين واللذين بدآ في نفس الوقت تقريبا. ولأنني لم أعثر في الخطاب علي ما يشعرني بأي قدر من الاطمئنان علي مستقبل هذا البلد الأمين، فقد رحت أعيد قراءة نص الخطاب مكتوبا بعد نشره في الصحف صبيحة اليوم التالي.
ورغم أن مشاعر القلق راحت تتزايد فإنها جعلتني أكثر اقتناعا بنتيجة سبق أن توصلت إليها، وهي أن الرئيس مبارك هو المسؤول الأول والوحيد عن الفشل الذي تعانيه مصر حاليا وأنه أهدر، ولا يزال مصرا علي إهدار، فرصة لم تتح لغيره لإعادة بناء هذا البلد الكبير وتحديثه. ولا أخفي سرا إذا قلت: إن ما دفعني للتوصل إلي هذه النتيجة هو شعور دفين، زاده الخطاب الأخير يقينا، بأن الرئيس مبارك لم يعد يشغله شيء آخر سوي إزالة كل العقبات التي قد تعترض طريق وصول نجله إلي سدة الحكم، حتي ولو كان الثمن هدم المعبد فوق رأس مصر كلها.. دليلي علي ذلك ما يلي:
١- تأكيد الرئيس مبارك في خطابه علي أن العام الماضي شهد، ولأول مرة في تاريخ مصر، انتخابات رئاسية تنافسية بين أكثر من مرشح، كما شهد انتخابات برلمانية لاحقة، وكلاهما أثبت أن الحزب الذي يقوده «يتمتع بثقة القاعدة العريضة من أبناء الوطن». وليس لهذا الكلام من معني سوي أن الرئيس يبدو راضيا تماما عما جري، ويرفض الاعتراف بحقيقة ساطعة تؤمن بها مصر العميقة من أقصاها إلي أقصاها، وهي أن انتخابات الرئاسة كانت شكلية ومطعوناً في مصداقيتها، لأنها لم تسمح لممثلي مصر الحقيقيين بخوضها، وأن نتائج الانتخابات البرلمانية لم تعكس إرادة مصر الحرة، بسبب عبث العابثين.
٢- تعمد الرئيس عدم الإشارة في خطابه إلي نيته في إعادة تعديل المادة ٧٦ من الدستور أو إدخال المادة ٧٧ ضمن المواد التي يرغب في طلب تعديلها مستقبلا، علي الرغم من تأكيده أن العام القادم سيكون عام التعديلات الدستورية. أكثر من ذلك فالرئيس يري في التعديل الذي تم إدخاله العام الماضي علي المادة ٧٦، والذي علي أساسه جرت الانتخابات الرئاسية، تأكيداً واضحاً علي «حاكمية الدستور ومرجعيته وترسيخاً للنظام الجمهوري». وليس هذا هو ما تراه مصر العميقة، والتي تجمع علي أنه لا معني لأي تعديلات دستورية لا تتضمن إعادة تعديل للمادة ٧٦ بما يسمح بانتخابات رئاسية حقيقية، وتعديلاً للمادة ٧٧ بما يسمح بعدم جواز شغل منصب الرئاسة لأكثر من فترتين متتاليتين، وتري في رفض الرئيس المساس بهاتين المادتين دليلا إضافيا علي أن النية باتت مبيتة، ليس فقط لقطع طريق الرئاسة أمام أي مرشح آخر غير جمال مبارك، وإنما منح هذا الأخير أيضا فرصة البقاء في السلطة مدي الحياة.
٣- الإصرار علي أن إجراء التعديلات الدستورية من خلال نفس الآليات المنصوص عليها في الدستور الحالي والتي تمكن الرئيس من أن يصبح المتحكم الوحيد في صياغاتها النهائية. صحيح أن الرئيس رحب في خطابه «بكل رأي وطني مخلص»، إلا أنه لم يوضح الآلية التي يمكن أن تعبر تلك الآراء الحرة عن نفسها من خلالها، مكتفيا بالإشارة إلي «مجالسنا النيابية» التي سيتم استطلاع رأي «نواب الشعب» في هذه التعديلات من خلالها. ولأن نواب الحزب الوطني هم الذين يسيطرون علي هذه المجالس، فمعني ذلك أن الرئيس الذي سيقترح التعديلات هو نفسه الذي سيتحكم في آليات إقرارها.
فإذا ما نحينا الأوضاع الداخلية جانبا، وألقينا نظرة علي ما ورد في خطاب الرئيس حول السياسة الخارجية وقضايا الأمن القومي فسوف نجد أنه مليء بالتناقضات، وينطوي علي محاولة مكشوفة للتنصل من المسؤولية عما صلت إليه عملية التسوية من مأزق وآلت إليه أوضاع المنطقة من تدهور. يقول الرئيس في خطابه: «خضت حروبا دامية، واتخذت - ولا أزال - قرارات صعبة وسط تحولات إقليمية ودولية تفرض تحديات عديدة في علاقاتنا بدول المنطقة وقوي العالم الكبري..
حافظت علي السلام وسط رياح عاتية وأزمات متتالية، فشهدت مصر أول فترة في تاريخها الحديث دون حرب ودون احتلال يمتهن سيادة الوطن وكرامته، وأكدت بمواقفنا وسياستنا مصداقية مصر، وكسبنا ثقة أشقائنا في العالم العربي وثقة شركائنا الدوليين، ونوظف علاقاتنا العربية والدولية لخدمة قضايا الداخل وبناء المجتمع المصري الذي نسعي إليه.. وكان عهدي لكم ولا يزال ألا أنجرف لمغامرات تقامر بمستقبل الوطن وموارده وأرواح أبنائه». ثم أنهي الرئيس خطابه بهذه العبارة الطنانة: «لم ولن أتخذ قرارا سعيا وراء شعبية جماهيرية وقتية، وعهد أجدده أمام الله وأمام الشعب أن أواصل تحمل مسؤولية الوطن بأمانة وشرف».
فهل يسمح لنا السيد الرئيس بأن نذكره بحقيقة لا مراء فيها وهي أنه لم يكن «في جميع الحروب التي خاضها» صانع قرار الحرب، اللهم إلا إذا كان يشير هنا إلي قراره بالمشاركة في «حرب تحرير الكويت»، التي كانت حربا أمريكية قبل أن تكون مصرية أو عربية، وبداية لمشروع «الشرق الأوسط الأمريكي الجديد» الذي يرفضه الرئيس الآن، ويحذر منه.
وكيف يستقيم تأكيد الرئيس علي أنه «حافظ علي السلام»، في نفس الوقت الذي يعترف فيه بـ «إخفاق عملية السلام وتوقفها» ومطالبة القوي الدولية «بالاعتراف بهذه الحقيقة»، أو تأكيده علي كسب ثقة الأشقاء في العالم العربي وثقة الشركاء الدوليين، بينما العدوان الإسرائيلي في فلسطين ولبنان والعدوان الأمريكي في العراق والأطماع الدولية التي تتجه نحو تقسيم السودان، خاصرة مصر الجنوبية، تزداد وحشية وضراوة. وكيف يستقيم تأكيد الرئيس علي نجاحه في توظيف علاقات مصر العربية والدولية «لخدمة قضايا الداخل»، في وقت تزداد فيه البطالة وتتدهور الخدمات ومستويات معيشة الغالبية الساحقة من الشعب المصري، وتبدو اختلالات هياكل الأجور والدخول بوضوح غير مسبوق في تاريخ مصر.
حين جاء الرئيس مبارك إلي الحكم في مصر كان من سبقوه قد مهدوا الطريق أمام انطلاقة كبري نحو التنمية والبناء ودفعوا الثمن غاليا. فالرئيس عبدالناصر خاض معركة الاستقلال والتحرر من الاستعمار قبل أن يدفع حياته ثمنا لهزيمة ٦٧، والرئيس السادات خاض معركة التسوية قبل أن يدفع حياته ثمنا لمعاهدة السلام التي أبرمها مع إسرائيل. ولأنه لم يكن مطلوبا من الرئيس مبارك أن يخوض أي مغامرات أو مقامرات، كما اضطر أسلافه، فقد كان يكفيه أن يبني علي ما أنجزوه وأن يتحاشي الوقوع فيما أخطأوا فيه، وأن يستغل مرحلة «السلام» الذي صنعه غيره لإعادة بناء مصر وتحديثها. ولو كان قد فعل لحقق لوطنه ما لم يحققه له أي من سلفه.
لكن تحوله المفاجئ إلي شخص آخر بعد سنوات قليلة من وصوله إلي السلطة، ولأسباب لا يعلمها إلا الله، حال دون تمكنه من القيام بهذا الدور. وليس أدل علي حدوث هذا التحول من إقدامه علي التصريح علنا بأن سبب عدم تعيين نائب له هو عدم عثوره علي من هو مؤهل لشغل هذا المنصب أو جدير به. ومن السهل علي رئيس يعتقد بأنه لا يوجد في بلد، تعداده أكثر من ٧٠ مليون نسمة، من هو مؤهل لشغل منصب نائب الرئيس أن يؤمن بالطبع أن ابنه هو الوحيد المؤهل لشغل منصب الرئيس.
وربما يكون هذا هو الفارق الرئيسي بيننا وبين الصين، والتي يستعد الرئيس مبارك الآن لزيارتها للمرة التاسعة في نوفمبر المقبل بمناسبة انعقاد القمة الصينية - الأفريقية. فهل يسمح لنا فخامة الرئيس أن نذكره بأنه تعاقب علي حكم الصين، التي يقودها حزب شيوعي يفترض أنه شمولي، ثلاثة رؤساء خلال فترة رئاسته، ليس من بينهم ابن رئيس سابق.
لقد كان انتصار التيار الإصلاحي والبراجماتي في حزب شمولي، هو الذي مكن الصين من تحقيق انطلاقتها الكبري. أما أحلام توريث السلطة، وبصرف النظر عن قدرات المرشح لها، فلا يمكن أن تحقق إلا الخراب.
No comments:
Post a Comment