Tuesday, January 16, 2007

بمناسبة التعديلات الدستورية.. زغرودة للجنة قتل الحياة الحزبية

وسط ضجيج الحديث عن الإصلاح الدستورى غير المسبوق، ودفع الحياة الحزبية إلى رحمة الله الواسعة، وبينما الزغاريد تنطلق احتفالا وتيمنا بقرب حلول وقفة عيد التعديل الدستورى تم على الهواء مباشرة وبفضل لجنة شئون رفض الحياة الحزبية، ومعاونة دائرة الأحزاب فى مجلس الدولة، تم رفض 12 طلبا لتأسيس أحزاب، وذلك إمعانا من النظام ولجنته وحزبه وقلبه وأفراحه، فى بث الروح فى الحياة الحزبية. ومن الحزب الوطنى إلى الحياة الحزبية اطمئنوا وطمئنونا. بما أن مصر تسير نحو الإصلاح السياسى، بكل سرعة. ولا مانع إطلاقا من إعلان الفرح والسرور، بلجنة شئون الأحزاب، هذا الاختراع العجيب الذى يجعل مصر متقدمة فى الأداء السياسى عن كل دول العالم فى الدنيا والآخرة. وأولى بشائر التعديلات الدستورية، والإصلاح الميكانيكى السياسى للحياة الحزبية، أن الحزب الوطنى يتولى بنفسه، ومن كل قلبه وجوانحه، الإشراف على الحياة السياسية الميتة. وعليه تجلى الإصلاح السياسى فى رفض تأسيس اثنى عشر حزبا دفعة واحدة من دائرة شئون الأحزاب فى المحكمة الإدارية العليا. وقد اعتاد المعتادون ألا يعلقوا على أحكام القضاء. لكن التعليق يأتى لأن المحكمة تطبق القانون، والقانون عند الوطنى، والوطنى عاوز إصلاح، والفساد سرق المفتاح. والمفتاح طلع له دمل اسمه لجنة كيد النسا لشئون الأحزاب، تتكون من أعضاء فى الحزب الوطنى والحكومة، وخليط من خلاصات الأعشاب البرية، والطحالب والنتوءات السياسية. حيث يستحيل على أى حزب أن يحصل على موافقة اللجنة، أو مطابقة القانون القائم على مربعات ومثلثات وتحاليل محللة. لجنة الأحزاب اعتادت رفض الطلبات، لم يفتح الله عليها منذ إنشائها بالموافقة على حزب واحد، باستثناء بعض الأحزاب الكومبارس، التى تمارس التطبيل والتطفيل على الحياة السياسية. ثم إن محكمة الأحزاب اعتادت تطبيق القانون، والقانون عجيب يمكن أن ينضم إلى عجائب الدنيا السبع، لأنه يدوخ طالبى العمل السياسى السبع دوخات، حتى يشعروا بالملل أو يعودوا إلى النقطة صفر ليتقدموا بطلبات تأسيس الحزب مرة أخرى، ليرفض مرة أخرى، فيتقدموا ويرفض، تماما مثل الأستك الذى كان يشده الممثل فى مسرحية هالو شلبى، ويسألونه بتشده ليه فيرد: عشان يلسعنى. وهكذا دواليك، فإن لجنة الأحزاب تمسك الأستك وترفض طلبات تأسيس الأحزاب، وبكل فخر رفضت كل الطلبات المقدمة لها منذ إقامتها فى عام 77، ومازالت ترفض الطلبات. والمحكمة تؤيد، وتطبق القانون، والقانون مريض، وفى انتظار علاجه على نفقة الحزب الوطنى الحاكم. ومن المدهش أن يجرى الحديث عن تقوية دور الأحزاب مع الإبقاء على لجنة حكومية تتحكم فى السماح للأحزاب وتمنعها أو تسمح لها. وهناك لجنة ومحكمة ترفض 12 حزبا مرة واحدة ويتحدثون عن 22 حزبا يصعب على المواطن أن يعد منها أكثر من خمسة على أفضل الفروض. ويصعب حتى على رئيس لجنة الأحزاب أو حتى على رئيس مجلس الشورى أن يعرف عددها، ونعرف كيف يتم السماح لأحزاب ورقية، ليكون العدد فى الليمون، وسلامى إلى التعديلات، والعدلات، والافتكاسات ولا أراكم الله مكروها فى لجنة أحزاب لديكم.

المحذر العام

كان الله فى عون الرئيس مبارك فالرجل لا يألو جهدا فى التحذير من مغبة التصرفات غير المسئولة فى العالم، لكن هذه التحذيرات لا تلقى آذانا صاغية من قبل من يتلقون التحذير، هؤلاء الحمقى. وكم يتمنى المواطن المصرى أن يركز الرئيس تحذيراته، فى الشئون الداخلية، وأن تمتد هذه التحذيرات إلى الحزب الوطنى، والفساد الحاكم، والتلاعب غير الدستورى فى الدستور. ولا نعرف لماذا لم يحذر الرئيس من إلغاء الإشراف القضائى، والاعتداء على حريات المواطنين بزراعة قانون للإرهاب. لا نعرف إن كان لإرهاب المواطن أم لمواجهة الإرهاب المعروف. المهم كم كنا نتمنى أن تصل تحذيرات السيد الرئيس لمستحقيها، الذين هم أولى بالشفعة، وبالإصلاح والديمقراطية، حتى لا نكون مثل القرع نحذر لبره، ونحتاج إلى تحذيرات للداخل. فقد كشف الرئيس فى تصريحاته لوكالة أنباء الشرق الأوسط أنه كان بعث برسالة عاجلة إلى الرئيس الأمريكى جورج بوش يوم وقفة عيد الأضحى، أبلغه فيها أن إعدام صدام حسين خلال عيد الأضحى سيكون له تداعيات خطيرة على العراق والمنطقة. ويبدو أن بوش لم يستمع للتحذير، وتم إعدام صدام. ونظن أن تحذيرات الرئيس لو كانت أخذت مأخذ الجد لأصبح العالم مختلفا يعيش فى تبات ونبات. وربما أنجب مزيدا من بوش وكونداليزا. تحذيرات الرئيس مبارك الأخيرة عن التداعيات، لم تكن الأولى، لكنها تذكرنا بالعديد من التحذيرات التى أطلقها المحذر العام للعالم، منذ سنوات، فقد أعلن طوال سنوات أنه حذر صدام من احتلال الكويت، ولكنه لم يستمع، كما حذر بوش من غزو العراق ولم يسمع، وفى كل هجوم أو عدوان إسرائيلى على الفلسطينيين نكتشف أن الرئيس أطلق تحذيرا لم يستمع إليه أحد، فقد حذر شارون ونيتانياهو وباراك، ومازال يحذر ويحذر، وبسبب تجاهل التحذيرات فإن العالم وقع فى كل هذه اللخبطة. لكن مع متابعة تحذيرات الرئيس لدول العالم العربى منها والعالمى، فإننا نجدها جميعا تحذيرات للتصدير وليست للاستهلاك المحلى، ولا نلمح أى تحذير له إلى الفاسدين فى الحزب الوطنى مثلا، أو تحذير بتعديل حقيقى للدستور بدلا من التعديلات الهيكلية، ولا تحذير من مغبة الفشل الحكومة ورفع الأسعار، والواضح أن تحذيرات السيد الرئيس مبارك، تتجه للخارج ولا تتطرق للداخل، وفى الغالب تصدر بعد فوات الأوان، أو بعد اتخاذ القرارات، ونتمنى أن يصدر الرئيس تحذيراته من مغبة وخطر الحزب الوطنى على الصحة العامة والخاصة للمواطنين

Thursday, January 04, 2007

محفوظ عبدالرحمن يكتب عن بداية ونهاية صدام: حدث فجر ٣٠ ديسمبر

علامات الساعة تقترب، هذا أمر لا يخفي علي مثله، خاض تجارب لا تحصي بالموت، كان الموت دائماً حليفه وعدوه معاً، أصبحت له خبرة نادرة به، ليشمه عن بعد ولا شك أنهم أرادوا أن يصلوا بالخبر إليه، إما تشفياً فيه، وإما ليروعوه يا إلهي ما أكثر أعدائه كانوا دائماً أبعد من أن يروه، لكنهم في هذه الأيام يركبون كتفيه. هل كان يريد أن يعرف الخبر مبكراً ليعد للأمر عدته فهو يريد أن يرحل في مشهد مهيب يبقي للتاريخ آلاف السنين، أو يعرف قبلها بقليل حتي تقصر فترة المعاناة.
قبيل الفجر دق الباب لم يكن نائماً، لم يعرف النوم الحقيقي منذ فترة طويلة، ربما لم يعرفه منذ سنين طويلة.
بالتأكيد أحس بالخوف، لا يوجد إنسان لا يشعر بالخوف من الموت، إنه الخوف الأكبر في حياة البشرية، وربما أحس رجفة باردة، وبالتأكيد غضبة لأنه أحسها، فلقد درب نفسه عقوداً علي ألا يخاف، وألا يعني له الألم شيئاً.
أنتج العراق في عام ١٩٨٠ فيلماً بعنوان «الأيام الطويلة» ، وهو مأخوذ عن رواية كتبها الشاعر عبدالأمير معلة، ولقد عرفته عندما كان مديراً لهيئة المسرح والسينما وكان شخصاً لطيفاً رقيقاً موالياً للرئيس في حماس شديد، وفيما بعد عرفت أنه توفي دون مقدمات، الأمر الذي أدهشني، ولكن أحدهم قال لي إن عبدالأمير سمع بخبر اعتقال شخص يعرفه،
ولأنه عنصر بارز في حزب البعث، ولأنه مقرب من الرئيس، ولأن ولاءه لم يكن يوماً محل شك، ذهب إلي مبني المخابرات ليؤكد لهم أن الشخص الذي قبض عليه بريء وأنه يشهد شهادة حق في صالحه، وأنه شخصياً يضمن ولاءه برقبته، وعندئذ ـ كما يقول الراوي ـ والله أعلم انهال عليه رجال المخابرات بالضرب حتي مات.
وكان عبدالأمير معلة مهتماً بالفيلم فهو يصور جزءاً من حياة الرئيس وهو صاحب قصته، لذلك اختص المخرج الكبير توفيق صالح به لكي يكتب له السيناريو ويخرجه ولما انتهي الفيلم وقبل عرضه جماهيرياً كان من الطبيعي أن يشاهده الرئيس، ولم يعلق صدام بعد رؤيته للفيلم، وطلب عرضه مرة أخري في موعد تالٍ.
وتجمع أصحاب الفيلم مع مجموعة طلبها صدام حسين بنفسه، وفي الفيلم مشهد يحكي كيف أن شخصاً يخرج رصاصة من قدم صدام أصيب بها وهو يحاول اغتيال الرئيس الأسبق عبدالكريم قاسم.
ولما انتهي الفيلم التفت صدام إلي من استحضرهم ليسألهم واحداً واحداً: لقد شهدت بنفسك واقعة استخراج الرصاصة، لذلك أريد منك أن تشهد بما رأيت، هل بدا علي آنئذ أنني أتألم كما يحدث في هذا الفيلم.
كره أن يبدو عليه الألم حتي وهم يستخرجون الرصاصة من قدمه دون مخدر، وبسكين المطبخ، وتسابقوا في إنكار أن الرئيس أظهر الألم، وقال أحدهم إنه ابتسم وهو يهدئ من جزعهم.
أبداً لا يبدو عليه الألم، وأيضاً لا يبدو عليه الخوف، لكنهم عندما أيقظوه عند الفجر، بالتأكيد أحس بالخوف يسري في جسده، لكنه كان قد وضع هدفاً في رأسه ألا يسمح للإعلام الأمريكي بأن يجد ثغرة في المشهد الرهيب يحوله إلي مهزلة، كما حولوا محاكمته إلي مهزلة سخيفة، كان يريدها كمحاكمة نوريمبرج بشكل أعظم، لكنهم أفسدوها عليه وعليهم.
أخذ يرتدي ملابسه: أثقلها فجو بغداد في هذه الأيام شديد البرودة، والبرد إذا اشتد قد يرعش الصوت أو اليد وهو سيذهب كالعريس إلي عروسه، الشهيد يسعي متلهفاً إلي لقاء الملائكة، ولكن في وقار وتؤدة.
الساعة تمر. قالوا له إن التنفيذ بعد ساعة، ساروا دولة عبر الممرات الطويلة وخطر له أنه أناني إذ لا يفكر إلا في خروجه بطلاً شهيداً، ولا يفكر في العراق.
مملكته وملعبه وحصنه عقودا طويلة، يا للعراق من بعدي! إنهم جميعا لا يعرفون كيف يحكمون العراق، ولا يستطيعون، كان للمصريين مكانة خاصة في نظام صدام وفي قلبه، وكان تفسير ذلك من الكثيرين أنه ولاء منه للفترة التي هرب فيها إلي مصر، وعاش لاجئا سياسيا،
بعد محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، وكنانري صدام حسين في قهوة أنديانا في الدقي وكانت في الستينيات مكانا لتجمع المثقفين وعلي رأسهم رجاء النقاش وعبدالقادر القط، وكان من العرب الذين يترددون علي المقهي الروائي الكبير ـ فيما بعد ـ عبدالرحمن منيف، الذي كان مسؤولا فيما بعد في وزارة البترول في جزء من زمن صدام.
لكن البعض يفسرون «حب» صدام للمصريين باحتياج العراق إلي عمالة رخيصة وآمنة.
وكانت هناك صفوة قريبة من صدام من بينها: أمين عز الدين وأحمد عباس صالح، وكان الأول ملحقا إعلاميا في السفارة المصرية عند محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم وهو الذي قام بتهريب صدام حسين إلي سوريا ومنها إلي مصر.
وكانت هذه النخبة يفزعها النظام الدموي، وقالوا رأيهم في كياسة للرئيس الذي رد عليهم أنهم لا يعرفون كيف يحكم العراق، وأنه الوحيد الذي يعرف ذلك.. أدخلوه إلي القاعة في غمضة عين واحدة، رأي بعض المجاهدين الملثمين يقتحمون المكان وفي أيديهم الرشاشات:
ـ نحن نعرف أنك لست قلقا يا فخامة الرئيس، لكننا نطمئنك أن الموقف في أيدي رجالك، سيطرنا علي المكان، وقبل ذلك سيطرنا علي البلاد، والآن سنخرج بفخامتك إلي مقر رئاسة الجمهورية، حيث تلقي بيانك الأول، وتبدأ في العودة إلي ممارسة الحكم.
كان هذا حلم يقظته الدائم، يعرف أن الأمريكان أخذوه من عملائهم العراقيين لكي لا يحدث شيء كهذا، لكن الحلم كان يتوالي بأشكال مختلفة، وكان في كثير من الأحيان يلقي فيهم كلمة بليغة.
الملثمون في هذه المرة مختلفون، يثيرون الرعشة.. يا إلهي هذه اللحظات. لا يعرف كم قتل بيديه، إنهم كثيرون وبعضهم عن قرب، وبالطبع لايعرف كم قتل بأوامره أو استلهاما لأوامره.
حكي صدام حسين في ذكرياته ـ وللأسف النص ليس أمامي الآن ـ أن اجتماعهم الأخير قبل الانقلاب اقتحمه مدير المخابرات وقال إنه يعرف أمرهم منذ بدأوا، وأنه يستطيع أن يفشلهم ولكنه لن يفعل لأن النظام لا يستحق الاستمرار، ولذلك فهو سيصمت ويتستر عليهم فإذا فشلوا نكل بهم.
كما توجب عليه وظيفته، وإذا ما نجحوا، فلابد أن يكون شريكاً لهم في الحكم، لأن لولا صمته ما نجحوا.
ووافقوا علي شروط الرجل، لكنهم أخذوا قراراً بتصفيته في الوقت المناسب، واختاروا صدام حسين لهذه المهمة.
ونجح الانقلابيون وحكموا، وتولي الرجل منصباً كبيراً، وعمل معهم، وذات مرة - كما يحكي صدام حسين - كان نازلاً معه علي السلم، ورأي أن هذا هو الوقت المناسب، فأخرج مسدسه وأطلق الرصاص عليه.
وكان يدهشه أن يبالغ الناس عندما يعرفون بمقتل شخص، الموت هو الفصل الثاني من الرواية والرواية لا تكتمل إلا بختامها، ولا أحد يعرف موعده، هذا من علم ربي، البعض يموت بعد يوم أو بعد أسبوع أو بعد أعوام، ولكن عندما يقتل شخص تحدث الصدمة حتي لو كان في الستين.
في كل مرة مارس فيها القتل تخيل أن يقتل، وفي كل مرة أصدر فيها حكم الإعدام، تخيل من يتآمر عليه، صحيح أنه أكثر دهاء من المتآمرين عليه، ولكن ربما نجحوا ولم تكن الفكرة تخيفه، فإن يقتل أو يقتل، هذا من عادات الزمان.
ما آلمه حقاً هو الاستهانة به، حتي هؤلاء الملثمون يصطدمون به وهم يسيرون حوله، ولن ينسي أبداً - رغم قصر الوقت الآتي - أنهم في المحاكمة/المهزلة كانوا يقولون له: أنت!
السفلة يريدون أن يقتلوه اختناقاً، فهو يتنفس كلمات التعظيم والتبجيل، سمعها من الجميع، الكبار والصغار، والمواطنين والزوار، الأمريكان والروس، كانت هذه الكلمات جواز سفرهم إلي كرسيه الأعلي.
قابلت صدام حسين
كنا في أحد المهرجانات، وأخذنا إلي الفندق ستة أشخاص من ستة بلاد عربية، لم يقولوا لنا إلي أين نذهب، لذلك أحسست بالقلق، لكن يبدو أن الآخرين كانوا يتوقعون.
وعندما عرفت إلي أين سنذهب أخذت أستعيد في ذهني هذه اللقاءات وبعضها كان يظهر علي شاشة التليفزيون.
كان الرئيس يقف في القاعة وهو يرتدي حلة عسكرية، وخلفه حارس كظله يرتدي حلة عسكرية، وحوله بعض رجال الدولة أيضاً في حلل عسكرية، ويأتي الضيف الذي سنكون مثله بعد قليل، يسلم علي الرئيس وهو يقول كلمات التعظيم والتبجيل، تلك التي يقتات بها الرئيس.
وبيني وبين نفسي أقسمت بكل ما أقدسه وأحبه أنني لن أقول كلمة مجاملة واحدة، وذكرت نفسي بأنني منذ وقت مبكر قررت ألا أقول كلمة مدح عن حاكم حتي لو أحسن، لذلك تلكأت حتي صرت في آخر الستة.
بدأ الأول بكلمات التعظيم والتبجيل، وقلت لنفسي إنني لو حتي أردت أن أقولها فلن أعرف، الثاني زاد عن الأول بألف مرة أو أكثر، ومن غرائب الحياة أنه كان بعد ذلك أشد المهاجمين لصدام، وعندما كنت أقابله بعد ذلك كنت أفتش في عينيه عن سر الانقلاب علي بطله، ولكن عينيه كانتا دائماً باردتين لا تشيان بشيء، أما الثالث فلقد أضاف إلي الكلام حركة الجسد، فكان يتلوي ويقفز ليؤكد معني التعظيم والتبجيل، وخشيت أن يفهم الحرس الأمر خطأ فيوجهون إليه مسدساتهم، ويكون من نصيبنا بعض الرصاصات.
وصافحت الرئيس.
وسحبت يدي، لكنها لم تنسحب، فلقد أمسك بها، وأدركت - وربما أدرك من حولي - أنه ينتظر مني كلمات التعظيم والتبجيل، لكنني لم أنطق وأنا أتذكر قسمي، مرت ثوان أطول من السنين، وعيناه مثبتتان علي، وكذلك عيون الحرس وكبار رجال الدولة وزملائي في الزيارة الميمونة، وأدركت أنه لن يفلت يدي قبل أن يأخذ «حقه»، وفي لحظة يأس تمتمت بكلام غير مفهوم، لكن ما إن بدأ حتي أفلت يدي.
وتنبه إلي اختيار الموعد، اليوم هو أول أيام عيد الأضحي، وفي هذه الساعة إذ بعدها بقليل يقدم المسلمون أضحياتهم، الأمريكان لا يفهمون هذه الأشياء، لابد أن أحد الخونة اختار لهم الموعد، وشرحه لهم، إنهم يريدون الإساءة إليه، لا عمل لهم إلا هذا، انقلبت كل إنجازاته العظمي إلي بلاء من وجهة نظرهم، لكنهم لا يوجهون إليه الإساءة وحده، إنهم يسيئون إلي الأمة كلها، والأمم لا تنسي.
أظن أن ذلك كان في عام ١٩٨٠، فلقد شاهدت العرض الأول لفيلم «الأيام الطويلة» الذي أشرت إليه، وكانت قد جاءتني أكثر من دعوة، لكنني تقاعست دون سبب واضح حتي اتصل بي الأستاذ صلاح أبوسيف وألح علي في السفر إلي بغداد.
كنت قبل أكثر من عام، ربما كان ذلك في أواخر عام ١٩٧٨ أو أوائل ١٩٧٩، كنت قد كتبت فيلم «القادسية»، جاءني الأستاذ صلاح بفكرة كتابة فيلم عن فتح مصر، أو فتح العراق أو فتح الشام، واخترنا فتح العراق، واقترحت ألا نستغرق في حرب طويلة، ونركز علي المعركة الرئيسية وهي «القادسية»، وكان الفيلم من إنتاج صلاح أبوسيف، وتعاقدت معه، وفاجأني بأنه اتفق مع العراق علي إنتاج الفيلم.
ولا يتصور أحد من كلمة «فاجأني»، أنه كان لدي اعتراض علي ذلك، فلقد كان الانطباع العام أن النظام في العراق الآن عروبي وطني يسعي إلي حماية الوطن الكبير، وإلي التنمية الشاملة، وإلي العدالة الاجتماعية، وأنه يستخدم ثروة العراق النفطية لهذه الغايات، وبالإضافة إلي هذا، فأنه فتح أبوابه للفنانين والأدباء العرب - خاصة المصريين - وفي وقت من الأوقات كانت زيارة صديق مصري في بغداد معناها أنك قد تجد كرم مطاوع وألفريد فرج وأمين إسكندر وإبراهيم الصحن وسعد لبيب أو بعضهم.
وبالطبع كانت كتابة فيلم «القادسية» وبدايات التصوير قبل الحرب العراقية - الإيرانية، وبالطبع كانت هناك بعض الملامح في صالح الجانب الفارسي حسب قواعد الدراما، لكن هذه الملامح أفزعت «الصداميين» فحذفوا بعضها وأضر هذا بدور سعاد حسني التي رفضت البطولة لتمثل الدور الثاني لسيدة فارسية، وكان الفيلم بشكل ما مشروعاً عروبياً، فلقد اشترك فيه ممثلون من مصر وسوريا والكويت والمغرب وتونس، فضلاً عن العراق.
وقف الشهيد الحي صلباً عالي الرأس يحمل بين يديه المصحف الشريف، يرسم صورته أمام التاريخ حتي لو قصم ذلك ظهره كما قصم ظهر مايكل أنجلو وهو يرسم سقف كنيسة سان بطرس.
إنه مرآة الحكام العرب سيرون، وترتعد فرائصهم، لكنه لا تهتز فيه شعرة، إنه وحده يقف أمام الآلة العسكرية الأمريكية، وحده سيعطيهم درس البطولة، ما أشبهه بالحسين الذي وقف أمام الآلة العسكرية الأموية، إنه ينوب وحده عن المستضعفين في العراق وفلسطين ولبنان فليهتف لهم، كل كلمة ينطق بها ستصل إلي الناس، قد يخفونها يوماً أو سنين، لكنها ستتسلل لتلهب ثورة الأمة.
وجاء أحد «العلوج» الملثمين ليضع عصابة علي وجهه، وغضب غضباً شديداً: أعراقي أنت؟! إذا كنت عراقياً فكيف لا تعرف أن رئيسك لا يعرف الخوف.
وانتصر علي الملثمين
يذكر يوم غزا الكويت أن مؤشر الراديو كان يذكر اسم صدام بكل اللغات، اليوم سيذكر الراديو والتليفزيون والصحف والنت اسم صدام بكل اللغات.
وتقدم مهيباً شجاعاً.
ومات وجميع الناس يموتون.
لقد قسم بوش الكعكة، أخذ البترول، وأعطي الأمان لإسرائيل بإزالة قوة عربية عسكرية، وقسم العراق دولاً بين الشعوبيين، وألقي درساً علي الحكام العرب، وحتي صدام منحه ميتة تضعه في مصاف شهداء الحرية

Wednesday, January 03, 2007

أمة في فراش أبي لهب !!

بقلم : محمد أبوكريشةMabokraisha@yahoo.com
Mabokraisha@hotmail.com
لا أحب أن أذكر أسماء أصدقائي أو أقاربي من المحامين أو الأطباء أو رجال الأعمال أو المهندسين أو المدرسين أو غيرهم ممن يشاركونني أوجاعي وأنقل محاوراتي معهم في هذه المساحة وتبدو في آرائهم الحكمة وفصل الخطاب .. لا أحبذ ذكر أسمائهم حتي لا أقع في فخ الدعاية والإعلان المجاني وأفسد الهدف النبيل من الكتابة.. كما ان هؤلاء الأصدقاء يتحدثون معي وليس في ذهنهم ان انقل حديثهم اليكم.. ولو كان ذلك في حسبانهم مانقلت هذا الحديث .. لا أريد أن افسدهم لان الإعلام مفسدة فهو المسئول الأول عن افساد الأطباء والمحامين وغيرهم ممن شغلتهم الأضواء والأهواء عن شرف المهنة ونبل الرسالة. لدي دائماً والحمد لله شاهد أو أكثر من أهل كل مهنة يفتح لي دفتر أحوالها ومستودع اسرارها وكهوف ثعابينها وغابات سباعها.. وما أوتيت ذلك علي علم عندي.. وأنا ايضا شاهد معهم علي أهل مهنتي.. وليس من بيننا شاهد زور أو من يعاني "قصر الذيل" فهو "أزعر" لذلك ينفث سمه وحقده وضغائنه ويحترق قلبه حسدا للناجحين والنجوم. وصديقي المحامي الكبير يعشق دائما أن يتحدانا بألغاز قانونية طريفة ويحلها هو في النهاية وبعد ان "يغلب حمارنا" وتكون في العادة مدخلا لحوار مثمر.. فقد سألنا يوما: هل تعرفون الجريمة التي يعاقب المرء علي الشروع فيها ويحصل علي البراءة والنجومية اذا ارتكبها فعلا؟.. وبعد أن عجزنا قال: هي جريمة قلب نظام الحكم.. ينال الانسان عقابا يصل إلي الإعدام إذا حاول مجرد محاولة قلب نظام الحكم في أي دولة.. لكنه يحصل علي البراءة والنجومية والزعامة اذا قلب نظام الحكم فعلا ونجحت محاولته أو مؤامرته.. ما أجمل هذا اللغز.. وحله أجمل منه فقد فتح لي بابا كان مغلقا دوني واضحكني بقدر ما أبكاني.. فالمؤامرة لن يطلق عليها هذا الوصف أو الاسم إلا إذا فشلت.. ولكنها اذا مضت في طريقها المرسوم ونجحت تحمل اسما آخر رناناً وجميلاً.. فتصبح ثورة أو خطة أو منهجاً أو حركة مباركة أو حركة تصحيح.. أو ثورة انقاذ أو هبة الشعب في وجه الظلم والاستعباد والاستبداد والاستعمار.. واصحاب المؤامرة يسلكون طريقا من اثنين .. طريقا الي القصر اذا نجحوا .. أو طريقا إلي القبر إذا فشلوا. والتاريخ العربي كله بناء شاهق اساسه المؤامرة .. سواء فشلت واحتفظت باسمها أو نجحت فحملت اسم ثورة أو هبة أو حركة أو انتفاضة.. هناك دائما مؤامرة وراء كل حدث عربي.. والمؤامرة تحاك بليل واطرافها مجموعة صغيرة لدي افرادها هدف واحد اجتمعوا عليه.. وفي كل الاحوال لاتري أي تواجد للشعوب التي اعتادت ان تكون مع من غلب.. فإذا نجحت المؤامرة هتفت الشعوب للثورة والحركة والهبة واذا فشلت المؤامرة هتفت الشعوب ضد مدبريها من الخونة والعملاء والمأجورين والجواسيس.. واعلنت تأييدها ومبايعتها لنظام الحكم الذي أحبط المؤامرة وانقذ الوطن من المخطط الشيطاني والتدبير الجهنمي.. فالشعوب العربية منذ عصر الفتنة الكبري والي ان يقضي الله امرا كان مفعولا تبايع الغالب وتلتف حول الكرسي تحمل علي الاعناق من يجلس عليه سواء كان الجالس هو المتآمر الذي نجح أو كان الحاكم الذي أحبط المؤامرة وواصل بقاءه علي الكرسي الملعون. *** لا شرعية ولاقيمة لمن ترك الكرسي في نظر الشعوب سواء تركه بإرادته وهذا لم يحدث إلا قليلاً أو نادرا أو أجبر علي تركه بمؤامرة سميت بعد نجاحها ثورة أو حركة.. والشعوب تنافق وتداهن الكرسي نفسه فهو الصنم المعبود لديها والجالس عليه يتحول بقدرة قادر إلي إله يستحق السجود والركوع والسمع والطاعة وعندما يتركه ينزل فورا من سمائه ليصبح حشرة تدوسها النعال وعندما أراد معاوية بن أبي سفيان أخذ البيعة لابنه يزيد ليكون الخليفة الأموي الثاني تردد الناس لعلمهم بطيش يزيد وقلة خبرته.. وانبري المنافقون فورا لحسم الأمر.. ووقف أحدهم متقلدا سيفه وقال مشيرا إلي معاوية: أمير المؤمنين هذا.. فإن مات فهذا واشار الي يزيد. .. فمن أبي فهذا .. واشار الي سيفه.. فطرب معاوية لقوله وامتثل العرب كدأبهم دوما. وهناك اناس كثيرون صنفهم التاريخ العربي كأبطال .. وآخرون صنفهم كمتآمرين وخونة لاغراض وأمزجة وأهواء لايعلمها إلا الله وأراني الآن اشك كثيرا في هذا التقسيم الذي أحسب أنه مزاجي هوائي لاسند له.. فقد انهزم السلطان قنصوه الغوري في موقعة مرج دابق امام العثمانيين بسبب خيانة خاير بك وفشلت ثورة علي بك الكبير بسبب خيانة قائد جيوشه محمد بك أبي الذهب .. ولم يتحدث كثيرون عن فساد الغوري نفسه وضعفه كما لم يقل أحد ان ثورة علي بك الكبير كانت أيضا مؤامرة علي الخلافة العثمانية.. والخلاصة ان كل المسائل التاريخية العربية منذ عهد الفتنة الكبري فيها قولان.. ونحن دائما بين حدثين أو بين نارين نار المؤامرة ونار من يحبطها - والعرب كشعوب هم وقود المعركة بين المتآمر ومن يحبط مؤامرته.. هم دائما الضحايا ومن يتبق منهم علي قيد الحياة بعد نجاح أو فشل المؤامرة يهتف لمن غلب .. والعراقيون الذين يفجرون انفسهم في بعضهم الان لم يتقدم منهم أحد لتفجير نفسه في صدام حسين وهو في الحكم .. وانتظروا المؤامرة الأمريكية التي أصبحت بعد نجاحها تحريرا وديمقراطية ليهتفوا لها وليضحوا بصدام في العيد.. هتف العراقيون بحياة صدام وهتفوا لموته.. وقاموا بالثورة فوق دبابات أمريكا.. وحملت المؤامرة اسم الثورة.. وهكذا يجري استغضاب العرب فلا يغضبون.. ويجري استفزازهم واهانتهم فيشعرون بالفخر والزهو.. ويسفكون دماء بعضهم لحساب الاخر "الله يخرب بيت الاخر" ويستنسر البغاث في أرض العرب ويستأسد في أمتنا الفأر ويتنمر "الصرصار" وتتفيل الذبابة لأن أمتنا لم يعد فيها شعوب .. ولأن الأمة صارت "أمة" أي جارية تباع وتشتري في أي سوق نخاسة حتي اذا كانت سوقا اثيوبية حبشية.. فقد صارت اثيوبيا في أرض العرب قوة احتلال غاشمة وامبريالية حبشية تصفوية دموية اجتاحت الصومال الذي لايعلم كثيرون انه دولة عربية فقد كانت عروبة الصومال "وش الفقر والنحس عليه" ومنذ قرر الصومال الانضمام إلي الجامعة العربية اختفي من الخريطة لانه شرب سم العروبة.. وأظن ان الصوماليين الآن يلعنون اليوم الذي قرروا فيه ان يصبحوا عربا.. ونفس الفأل السييء والحظ النحس اصاب جيبوتي وجزر القمر حيث لم تنعما بلحظة استقرار منذ أصابتهما لعنة العروبة وانضمتا إلي الجامعة إياها!! *** وقد قيل ان اريتريا كانت تريد الانضمام إلي الجامعة إياها فرفض العرب.. وقيل أيضا ان اريتريا هي التي رفضت وفي كل الأحوال فإنني اهنيء اريتريا بنجاتها وسلامتها لأن كل العرب ومن ينضمون إلي زمرتهم يشربون الآن من الطلمبات الحبشية المسمومة وقد قيل أيضا أن إيران وإسرائيل عرضتا الانضام إلي الجامعة إياها ولكنني لا أظن أن الدولتين وصلتا إلي هذا الحد من البلاهة إلا إذا كان الهدف هو تغيير اسمها إلي الجامعة العبرية أو الفارسية وفي هذه الحالة قد يزول الشؤم ويبطل مفعول السحر الأسود. ولم تنجح السياسة العربية منذ عصر الفتنة الكبري في أن تكون شعبية إلا في جزئية واحدة هي جزئية المؤامرة.. فقد أفلح الرسميون العرب علي مر التاريخ في جعل المؤامرة فلكلوراً شعبياً راسخاً.. وساعدهم علي النجاح أن الشعوب أصيبت بالهشاشة والانهيار النفسي والعجز العقلي والجنسي وفقدان المناعة الفكرية والبيولوجية.. ودائما هناك سبب خارج الإرادة وراء الفشل العام أو الفشل الفردي.. فالرجل العاجز جنسيا الذي يفشل في معاشرة زوجته تعرض لمؤامرة الربط فصار مربوطا..وكل عربي يتعرض لمحنة أو مشكلة في عمله أو أسرته منظور ومحسود "ومضروب عين" وكل امرأة تفشل في بيتها ومع زوجها معمول لها عمل معلق في رجل نملة - فهناك مصطلحات شعبية فلكلورية للمؤامرة مثل المهموز والزمبة والزر والدبوس - ويقول العربي: "فلان فقعني زمبة أو اداني مهموز أو زر أو دبوس" وأنت لا تستطيع ابداء أي ملاحظة أو التحذير من خطأ في العمل أو غيره حتي لا يتهمك الناس بأنك "زمبجي أو موقعاتي أو بتاع مهاميز". نحن في كل شئون حياتنا محاطون بمتآمرين ودساسين وجواسيس ومراقبين يعدون أنفاسنا - دائما هناك مؤامرة - فالحسد مؤامرة والعمل مؤامرة والزنب والمهاميز مؤامرة.. وكلام الناس مؤامرة وأنا دائما في حالة من اثنتين طوال الوقت فإما إنني أتآمر أو أكون ضحية مؤامرة وهذا الاسراف الشعبي في إعلاء التفسير التآمري لكل حدث ولكل نظرة أو ابتسامة أو سلام أو كلام أو موعد أو لقاء يؤكد بما لا يدع أي مساحة لشك أننا منهارون ومصابون بهشاشة العظام والعقل والقلب.. يؤكد ضعفنا وخورنا.. كما يؤكد أننا فاسدون.. والفساد يؤدي إلي الخوف والفزع والمعوج في حياته الأسرية أو العملية هو الذي يصاب بخوف مرضي من التآمر والدسائس.. هناك أخطاء فادحة وفاضحة في سلوكنا تجعلنا مصابين بعقدة المؤامرة والدس والنميمة والوقيعة.. كما أن المناخ العربي كله ملوث وظلامي وليس فيه بصيص ضوء.. مناخ غائم ضبابي انعدمت فيه الرؤية تماما.. لذلك نسير ببطء شديد ونبالغ في الحذر والخوف.. ونعتمد علي التخمين والصدفة ونخبط في كل أمورنا خبط عشواء الليل كما قال الخليفة عبدالملك بن مروان للحجاج بن يوسف الثقفي. *** أنت لا تعرف لماذا تم تصعيد هذا واسقاط هذا.. لماذا تم تقريب فلان وإبعاد الآخر؟ لا نعرف القواعد والمعايير التي جعلت هذا يصعد وغيره يهبط.. لا نعرف الأسس التي علي أساسها تم اختيار زيد واستبعاد عمرو.. لماذا صار هذا نجما لامعا وصار زميله نكرة وخارج الأضواء؟ لا يوجد ما يقنعك بترقية فلان وتخطي فلان.. لا يوجد أي مبرر منطقي لحصولك علي الجائزة وحجبها عني.. لا توجد أي حجة مقنعة للدماء العربية التي تسفك بأيد عربية في فلسطين ولبنان والصومال والسودان والعراق.. لا توجد إجابة شافية للسؤال الأزلي: لماذا يتصارع العرب مع العرب في الوطن الواحد؟ أي شيء ثمن هذا الذي يتقاتلون عليه؟ وتنظر في كل اتجاه فلا تري إلا عظمة تافهة.. ثم يستقر في عقلك ان العرب كلاب.. فلا يتصارع علي العظمة والفضلات إلا الكلاب بشرط أن نكون كلابا ضالة وليست "كلاب لولو" مدللة. وعندما تغيب الشمس ويجن الليل حيث لا قمر ولا كهرباء تصبح العشوائية هي الحاكم وتصير سيدة الموقف وتنهار الجماعية وتسود الفردية ويفعل كل منا ما يحلو له ويرضيه هو.. ولا أحد يقرأ النتائج أو يقدر العواقب فلا عجب بعد ذلك كما يقول صديقي شريف الشناوي أن يلقي أحدهم جاموسة نافقة في النيل أو يصطاد السمك بالسم أو الديناميت.. لا يوجد سقف يجمعنا وكل منا له سقفه الخاص به أو كل منا يتصرف بلا سقف.. ولا عجب أن نعتمد علي المؤامرة في تفسير ما يجري حولنا لأننا لا نفهم.. لا عجب أن نقول أن فلانا صعد وصار نجما بالنفاق أو الفلوس أو الوساطة أو علي جثث الآخرين وأنه تآمر ودس ومارس لعبة المهاميز والوقيعة لإزاحة منافسيه الأكفاء.. لا عجب أن نلجأ للتفسير التآمري أو الغيبي أو العبثي لكل الأحداث لأنه لا يوجد أي منطق في كل ما يجري حولنا من المحيط إلي الخليج.. لأن كل ما يجري حولنا عبث ينتمي إلي مسرح اللامعقول.. وسيفشل كل من يحاول إعمال عقله في أي أمر عربي فردي أو جماعي.. فلا عمل للعقل في هذه الأمة.. بل لا عقل في هذه الأمة.. فقد فر العقل بجلده وقطع المنطق تذكرة ذهاب وغياب.. كل شيء وكل قرار في أمتنا هوائي مزاجي "مودي".. وكل تبرير للكوارث والمصائب في هذه الأمة منحاز وهوائي مثل تبرير صديقي محمد زكي بالفرقة الرابعة بكلية طب طنطا لجرائم الأطباء.. فهو لم يستطع التجرد في أحكامه وتحدث كطبيب لا كإنسان محايد وقال عجبا مثل أن الطبيب ينبغي أن يكون بلا عواطف ولا مشاعر ولا يعبأ بآلام المريض حتي يقوي علي حمل المشرط.. فقد خلط صديقي بين العواطف والانفعالات.. ونسي أن المريض في حاجة إلي مشاعر الطبيب وأخلاقه وإنسانيته اضعاف حاجته إلي العلاج الكيميائي أو المشرط وإلا لأعطينا المشرط لأي جزار يذبح الشاة بلا أي عواطف نحوها. وقال صديقي محمد زكي: لاعيب في أن يفكر الطبيب ويهتم بالفلوس.. وأترك لكم التعليق علي هذه المقولة حتي لا يأخذني غضبي منها إلي الخطأ.. ولكني مع صديقي محمد زكي في قوله إن تدهور حال الأطباء هو جزء من التدهور العام في كل مجال.. وأحيله إلي كلام صديقي الشاب أيمن القفاص الذي قال: كل جريمة الآن عندنا لها تبرير مثل تبرير قتل الطبيب للمريض بأن هذه أعمار وآجال وقضاء وقدر.. ومثل تبرير غباء الآباء في تربية ابنائهم بأنهم يريدون مصلحتهم. وأعود إلي المؤامرة لأؤكد لصديقي المهندس محمود أبوالعلا أن أحداً لا يتآمر علي العرب وان العرب لا يستحقون الآن عناء أو جهد التخطيط والتآمر عليهم.. فقد ماتت الشعوب سريرياً.. واللعب ضدنا أو معنا صار علي المكشوف وفي عز فرحة العيد.. وهناك رهان مضمون علينا بأننا لانغضب ولا نثور ولا ننفعل لأننا عقلاء ومتحضرون وقبلنا الآخر قبولا وقبلناه تقبيلا.. وتحقق فينا قول الشاعر الراحل نزار قباني: لا طفل يولد عندنا إلا وزارت أمه يومنا فراش أبي اللهب.. كل اللصوص من المحيط إلي الخليج يدخنون ويشربون علي حساب أبي لهب.. نحن العرب لم نعد حتي ظاهرة صوتية كما قيل عنا يوما.. بل صرنا ظاهرة جمادية جغرافية.. مكانية.. كل عربي صار سهلا أو هضبة أو تلا أو جبلا أو قطعة أرض.. مجرد مكان لايعترض علي من داسه بالنعال ولا يختار من سيسكنه ويقيم فيه.. العربي لم يعد يضاجع أحدا أو يضاجعه أحد فهو لا يستحق لكنه اصبح السرير الذي تقع فوقه جريمة المضاجعة الحرام.. العربي لم يعد حتي يترك ليشرب من البحر.. بل يتم اجباره علي أن يشرب ماء المجاري من الطلمبات الحبشية.. العربي لم يعد أحد يغتصبه بل صارت مواقعته برضاه.. وهكذا صارت الأمة كلها فراشا ممتدا من المحيط إلي الخليج لأبي لهب!! نظرة: كنت أصاب بالفزع عندما يقول لي أحد أصدقائي من دول الخليج مجيبا: الله يرحم والديك - لأن أبي وأمي علي قيد الحياة ولأن الدعاء بالرحمة ارتبط عندنا بالموت.. ويبدو ان حياتنا صارت عذاباً في عذاب حتي أننا لانري الرحمة إلا بالموت.. وعندما يموت ميتنا نقول: لقد استراح.. ونحن لاندري طبعاً إن كان موته بداية راحة أم بداية عذاب أبدي.. وفلكلور ارتباط الرحمة بالموت فقط اصبح متوارثاً واستقر في ذهن الاحفاد نقلا عن الاجداد.. والناس عندنا يحلفون برحمة أبيهم ورحمة أمهم.. فلا رحمة عندنا إلا لميت.. واذكر ان احد قراء القرآن الكريم أقام دعوي ضد الإذاعة لأن المذيع قال: نستمع الآن إلي تلاوة مباركة من تسجيلات المرحوم الشيخ فلان.. فالرجل رفض ان يكون مرحوما لأنه حي.. ومن يومها كفت الإذاعة عن ذكر لقب المرحوم قبل اسم الشيخ حتي إذا كان ميتاً.. وخرج كل قراء القرآن تماما من رحمة الإذاعة.. وأذكر أن صبيا كان يستمع إلي الآية القرآنية في سورة الاسراء: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا" وسمعته يقول عقب تلاوة الآية: بعد الشر.. ربنا يخلي بابا وماما!!