علامات الساعة تقترب، هذا أمر لا يخفي علي مثله، خاض تجارب لا تحصي بالموت، كان الموت دائماً حليفه وعدوه معاً، أصبحت له خبرة نادرة به، ليشمه عن بعد ولا شك أنهم أرادوا أن يصلوا بالخبر إليه، إما تشفياً فيه، وإما ليروعوه يا إلهي ما أكثر أعدائه كانوا دائماً أبعد من أن يروه، لكنهم في هذه الأيام يركبون كتفيه. هل كان يريد أن يعرف الخبر مبكراً ليعد للأمر عدته فهو يريد أن يرحل في مشهد مهيب يبقي للتاريخ آلاف السنين، أو يعرف قبلها بقليل حتي تقصر فترة المعاناة.
قبيل الفجر دق الباب لم يكن نائماً، لم يعرف النوم الحقيقي منذ فترة طويلة، ربما لم يعرفه منذ سنين طويلة.
بالتأكيد أحس بالخوف، لا يوجد إنسان لا يشعر بالخوف من الموت، إنه الخوف الأكبر في حياة البشرية، وربما أحس رجفة باردة، وبالتأكيد غضبة لأنه أحسها، فلقد درب نفسه عقوداً علي ألا يخاف، وألا يعني له الألم شيئاً.
أنتج العراق في عام ١٩٨٠ فيلماً بعنوان «الأيام الطويلة» ، وهو مأخوذ عن رواية كتبها الشاعر عبدالأمير معلة، ولقد عرفته عندما كان مديراً لهيئة المسرح والسينما وكان شخصاً لطيفاً رقيقاً موالياً للرئيس في حماس شديد، وفيما بعد عرفت أنه توفي دون مقدمات، الأمر الذي أدهشني، ولكن أحدهم قال لي إن عبدالأمير سمع بخبر اعتقال شخص يعرفه،
ولأنه عنصر بارز في حزب البعث، ولأنه مقرب من الرئيس، ولأن ولاءه لم يكن يوماً محل شك، ذهب إلي مبني المخابرات ليؤكد لهم أن الشخص الذي قبض عليه بريء وأنه يشهد شهادة حق في صالحه، وأنه شخصياً يضمن ولاءه برقبته، وعندئذ ـ كما يقول الراوي ـ والله أعلم انهال عليه رجال المخابرات بالضرب حتي مات.
وكان عبدالأمير معلة مهتماً بالفيلم فهو يصور جزءاً من حياة الرئيس وهو صاحب قصته، لذلك اختص المخرج الكبير توفيق صالح به لكي يكتب له السيناريو ويخرجه ولما انتهي الفيلم وقبل عرضه جماهيرياً كان من الطبيعي أن يشاهده الرئيس، ولم يعلق صدام بعد رؤيته للفيلم، وطلب عرضه مرة أخري في موعد تالٍ.
وتجمع أصحاب الفيلم مع مجموعة طلبها صدام حسين بنفسه، وفي الفيلم مشهد يحكي كيف أن شخصاً يخرج رصاصة من قدم صدام أصيب بها وهو يحاول اغتيال الرئيس الأسبق عبدالكريم قاسم.
ولما انتهي الفيلم التفت صدام إلي من استحضرهم ليسألهم واحداً واحداً: لقد شهدت بنفسك واقعة استخراج الرصاصة، لذلك أريد منك أن تشهد بما رأيت، هل بدا علي آنئذ أنني أتألم كما يحدث في هذا الفيلم.
كره أن يبدو عليه الألم حتي وهم يستخرجون الرصاصة من قدمه دون مخدر، وبسكين المطبخ، وتسابقوا في إنكار أن الرئيس أظهر الألم، وقال أحدهم إنه ابتسم وهو يهدئ من جزعهم.
أبداً لا يبدو عليه الألم، وأيضاً لا يبدو عليه الخوف، لكنهم عندما أيقظوه عند الفجر، بالتأكيد أحس بالخوف يسري في جسده، لكنه كان قد وضع هدفاً في رأسه ألا يسمح للإعلام الأمريكي بأن يجد ثغرة في المشهد الرهيب يحوله إلي مهزلة، كما حولوا محاكمته إلي مهزلة سخيفة، كان يريدها كمحاكمة نوريمبرج بشكل أعظم، لكنهم أفسدوها عليه وعليهم.
أخذ يرتدي ملابسه: أثقلها فجو بغداد في هذه الأيام شديد البرودة، والبرد إذا اشتد قد يرعش الصوت أو اليد وهو سيذهب كالعريس إلي عروسه، الشهيد يسعي متلهفاً إلي لقاء الملائكة، ولكن في وقار وتؤدة.
الساعة تمر. قالوا له إن التنفيذ بعد ساعة، ساروا دولة عبر الممرات الطويلة وخطر له أنه أناني إذ لا يفكر إلا في خروجه بطلاً شهيداً، ولا يفكر في العراق.
مملكته وملعبه وحصنه عقودا طويلة، يا للعراق من بعدي! إنهم جميعا لا يعرفون كيف يحكمون العراق، ولا يستطيعون، كان للمصريين مكانة خاصة في نظام صدام وفي قلبه، وكان تفسير ذلك من الكثيرين أنه ولاء منه للفترة التي هرب فيها إلي مصر، وعاش لاجئا سياسيا،
بعد محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، وكنانري صدام حسين في قهوة أنديانا في الدقي وكانت في الستينيات مكانا لتجمع المثقفين وعلي رأسهم رجاء النقاش وعبدالقادر القط، وكان من العرب الذين يترددون علي المقهي الروائي الكبير ـ فيما بعد ـ عبدالرحمن منيف، الذي كان مسؤولا فيما بعد في وزارة البترول في جزء من زمن صدام.
لكن البعض يفسرون «حب» صدام للمصريين باحتياج العراق إلي عمالة رخيصة وآمنة.
وكانت هناك صفوة قريبة من صدام من بينها: أمين عز الدين وأحمد عباس صالح، وكان الأول ملحقا إعلاميا في السفارة المصرية عند محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم وهو الذي قام بتهريب صدام حسين إلي سوريا ومنها إلي مصر.
وكانت هذه النخبة يفزعها النظام الدموي، وقالوا رأيهم في كياسة للرئيس الذي رد عليهم أنهم لا يعرفون كيف يحكم العراق، وأنه الوحيد الذي يعرف ذلك.. أدخلوه إلي القاعة في غمضة عين واحدة، رأي بعض المجاهدين الملثمين يقتحمون المكان وفي أيديهم الرشاشات:
ـ نحن نعرف أنك لست قلقا يا فخامة الرئيس، لكننا نطمئنك أن الموقف في أيدي رجالك، سيطرنا علي المكان، وقبل ذلك سيطرنا علي البلاد، والآن سنخرج بفخامتك إلي مقر رئاسة الجمهورية، حيث تلقي بيانك الأول، وتبدأ في العودة إلي ممارسة الحكم.
كان هذا حلم يقظته الدائم، يعرف أن الأمريكان أخذوه من عملائهم العراقيين لكي لا يحدث شيء كهذا، لكن الحلم كان يتوالي بأشكال مختلفة، وكان في كثير من الأحيان يلقي فيهم كلمة بليغة.
الملثمون في هذه المرة مختلفون، يثيرون الرعشة.. يا إلهي هذه اللحظات. لا يعرف كم قتل بيديه، إنهم كثيرون وبعضهم عن قرب، وبالطبع لايعرف كم قتل بأوامره أو استلهاما لأوامره.
حكي صدام حسين في ذكرياته ـ وللأسف النص ليس أمامي الآن ـ أن اجتماعهم الأخير قبل الانقلاب اقتحمه مدير المخابرات وقال إنه يعرف أمرهم منذ بدأوا، وأنه يستطيع أن يفشلهم ولكنه لن يفعل لأن النظام لا يستحق الاستمرار، ولذلك فهو سيصمت ويتستر عليهم فإذا فشلوا نكل بهم.
كما توجب عليه وظيفته، وإذا ما نجحوا، فلابد أن يكون شريكاً لهم في الحكم، لأن لولا صمته ما نجحوا.
ووافقوا علي شروط الرجل، لكنهم أخذوا قراراً بتصفيته في الوقت المناسب، واختاروا صدام حسين لهذه المهمة.
ونجح الانقلابيون وحكموا، وتولي الرجل منصباً كبيراً، وعمل معهم، وذات مرة - كما يحكي صدام حسين - كان نازلاً معه علي السلم، ورأي أن هذا هو الوقت المناسب، فأخرج مسدسه وأطلق الرصاص عليه.
وكان يدهشه أن يبالغ الناس عندما يعرفون بمقتل شخص، الموت هو الفصل الثاني من الرواية والرواية لا تكتمل إلا بختامها، ولا أحد يعرف موعده، هذا من علم ربي، البعض يموت بعد يوم أو بعد أسبوع أو بعد أعوام، ولكن عندما يقتل شخص تحدث الصدمة حتي لو كان في الستين.
في كل مرة مارس فيها القتل تخيل أن يقتل، وفي كل مرة أصدر فيها حكم الإعدام، تخيل من يتآمر عليه، صحيح أنه أكثر دهاء من المتآمرين عليه، ولكن ربما نجحوا ولم تكن الفكرة تخيفه، فإن يقتل أو يقتل، هذا من عادات الزمان.
ما آلمه حقاً هو الاستهانة به، حتي هؤلاء الملثمون يصطدمون به وهم يسيرون حوله، ولن ينسي أبداً - رغم قصر الوقت الآتي - أنهم في المحاكمة/المهزلة كانوا يقولون له: أنت!
السفلة يريدون أن يقتلوه اختناقاً، فهو يتنفس كلمات التعظيم والتبجيل، سمعها من الجميع، الكبار والصغار، والمواطنين والزوار، الأمريكان والروس، كانت هذه الكلمات جواز سفرهم إلي كرسيه الأعلي.
قابلت صدام حسين
كنا في أحد المهرجانات، وأخذنا إلي الفندق ستة أشخاص من ستة بلاد عربية، لم يقولوا لنا إلي أين نذهب، لذلك أحسست بالقلق، لكن يبدو أن الآخرين كانوا يتوقعون.
وعندما عرفت إلي أين سنذهب أخذت أستعيد في ذهني هذه اللقاءات وبعضها كان يظهر علي شاشة التليفزيون.
كان الرئيس يقف في القاعة وهو يرتدي حلة عسكرية، وخلفه حارس كظله يرتدي حلة عسكرية، وحوله بعض رجال الدولة أيضاً في حلل عسكرية، ويأتي الضيف الذي سنكون مثله بعد قليل، يسلم علي الرئيس وهو يقول كلمات التعظيم والتبجيل، تلك التي يقتات بها الرئيس.
وبيني وبين نفسي أقسمت بكل ما أقدسه وأحبه أنني لن أقول كلمة مجاملة واحدة، وذكرت نفسي بأنني منذ وقت مبكر قررت ألا أقول كلمة مدح عن حاكم حتي لو أحسن، لذلك تلكأت حتي صرت في آخر الستة.
بدأ الأول بكلمات التعظيم والتبجيل، وقلت لنفسي إنني لو حتي أردت أن أقولها فلن أعرف، الثاني زاد عن الأول بألف مرة أو أكثر، ومن غرائب الحياة أنه كان بعد ذلك أشد المهاجمين لصدام، وعندما كنت أقابله بعد ذلك كنت أفتش في عينيه عن سر الانقلاب علي بطله، ولكن عينيه كانتا دائماً باردتين لا تشيان بشيء، أما الثالث فلقد أضاف إلي الكلام حركة الجسد، فكان يتلوي ويقفز ليؤكد معني التعظيم والتبجيل، وخشيت أن يفهم الحرس الأمر خطأ فيوجهون إليه مسدساتهم، ويكون من نصيبنا بعض الرصاصات.
وصافحت الرئيس.
وسحبت يدي، لكنها لم تنسحب، فلقد أمسك بها، وأدركت - وربما أدرك من حولي - أنه ينتظر مني كلمات التعظيم والتبجيل، لكنني لم أنطق وأنا أتذكر قسمي، مرت ثوان أطول من السنين، وعيناه مثبتتان علي، وكذلك عيون الحرس وكبار رجال الدولة وزملائي في الزيارة الميمونة، وأدركت أنه لن يفلت يدي قبل أن يأخذ «حقه»، وفي لحظة يأس تمتمت بكلام غير مفهوم، لكن ما إن بدأ حتي أفلت يدي.
وتنبه إلي اختيار الموعد، اليوم هو أول أيام عيد الأضحي، وفي هذه الساعة إذ بعدها بقليل يقدم المسلمون أضحياتهم، الأمريكان لا يفهمون هذه الأشياء، لابد أن أحد الخونة اختار لهم الموعد، وشرحه لهم، إنهم يريدون الإساءة إليه، لا عمل لهم إلا هذا، انقلبت كل إنجازاته العظمي إلي بلاء من وجهة نظرهم، لكنهم لا يوجهون إليه الإساءة وحده، إنهم يسيئون إلي الأمة كلها، والأمم لا تنسي.
أظن أن ذلك كان في عام ١٩٨٠، فلقد شاهدت العرض الأول لفيلم «الأيام الطويلة» الذي أشرت إليه، وكانت قد جاءتني أكثر من دعوة، لكنني تقاعست دون سبب واضح حتي اتصل بي الأستاذ صلاح أبوسيف وألح علي في السفر إلي بغداد.
كنت قبل أكثر من عام، ربما كان ذلك في أواخر عام ١٩٧٨ أو أوائل ١٩٧٩، كنت قد كتبت فيلم «القادسية»، جاءني الأستاذ صلاح بفكرة كتابة فيلم عن فتح مصر، أو فتح العراق أو فتح الشام، واخترنا فتح العراق، واقترحت ألا نستغرق في حرب طويلة، ونركز علي المعركة الرئيسية وهي «القادسية»، وكان الفيلم من إنتاج صلاح أبوسيف، وتعاقدت معه، وفاجأني بأنه اتفق مع العراق علي إنتاج الفيلم.
ولا يتصور أحد من كلمة «فاجأني»، أنه كان لدي اعتراض علي ذلك، فلقد كان الانطباع العام أن النظام في العراق الآن عروبي وطني يسعي إلي حماية الوطن الكبير، وإلي التنمية الشاملة، وإلي العدالة الاجتماعية، وأنه يستخدم ثروة العراق النفطية لهذه الغايات، وبالإضافة إلي هذا، فأنه فتح أبوابه للفنانين والأدباء العرب - خاصة المصريين - وفي وقت من الأوقات كانت زيارة صديق مصري في بغداد معناها أنك قد تجد كرم مطاوع وألفريد فرج وأمين إسكندر وإبراهيم الصحن وسعد لبيب أو بعضهم.
وبالطبع كانت كتابة فيلم «القادسية» وبدايات التصوير قبل الحرب العراقية - الإيرانية، وبالطبع كانت هناك بعض الملامح في صالح الجانب الفارسي حسب قواعد الدراما، لكن هذه الملامح أفزعت «الصداميين» فحذفوا بعضها وأضر هذا بدور سعاد حسني التي رفضت البطولة لتمثل الدور الثاني لسيدة فارسية، وكان الفيلم بشكل ما مشروعاً عروبياً، فلقد اشترك فيه ممثلون من مصر وسوريا والكويت والمغرب وتونس، فضلاً عن العراق.
وقف الشهيد الحي صلباً عالي الرأس يحمل بين يديه المصحف الشريف، يرسم صورته أمام التاريخ حتي لو قصم ذلك ظهره كما قصم ظهر مايكل أنجلو وهو يرسم سقف كنيسة سان بطرس.
إنه مرآة الحكام العرب سيرون، وترتعد فرائصهم، لكنه لا تهتز فيه شعرة، إنه وحده يقف أمام الآلة العسكرية الأمريكية، وحده سيعطيهم درس البطولة، ما أشبهه بالحسين الذي وقف أمام الآلة العسكرية الأموية، إنه ينوب وحده عن المستضعفين في العراق وفلسطين ولبنان فليهتف لهم، كل كلمة ينطق بها ستصل إلي الناس، قد يخفونها يوماً أو سنين، لكنها ستتسلل لتلهب ثورة الأمة.
وجاء أحد «العلوج» الملثمين ليضع عصابة علي وجهه، وغضب غضباً شديداً: أعراقي أنت؟! إذا كنت عراقياً فكيف لا تعرف أن رئيسك لا يعرف الخوف.
وانتصر علي الملثمين
يذكر يوم غزا الكويت أن مؤشر الراديو كان يذكر اسم صدام بكل اللغات، اليوم سيذكر الراديو والتليفزيون والصحف والنت اسم صدام بكل اللغات.
وتقدم مهيباً شجاعاً.
ومات وجميع الناس يموتون.
لقد قسم بوش الكعكة، أخذ البترول، وأعطي الأمان لإسرائيل بإزالة قوة عربية عسكرية، وقسم العراق دولاً بين الشعوبيين، وألقي درساً علي الحكام العرب، وحتي صدام منحه ميتة تضعه في مصاف شهداء الحرية
No comments:
Post a Comment