عندما قامت إسرائيل في عام ١٩٨٨ بإطلاق أول قمر صناعي لها في خطوة وصفت بأنها نقلة علمية عملاقة، لم تقف مصر مكتوفة الأيدي.. في الأسبوع ذاته تم إطلاق الرغيف الطباقي في الأسواق، وأذكر أن وزير التموين في ذلك الوقت أطل علي الناس من تليفزيون الريادة في مؤتمر صحفي حاشد، وتحدث ملياً عن الحدث الذي طال انتظاره، وبشّر الجماهير بأن الرغيف الطباقي زنة ٩٠ جراماً ليس آخر ابداعات وزارته، وإنما الخبراء في المخبز الآلي الجديد عاكفون علي تطوير أجيال جديدة من الرغيف، بعضها محمص و بعضها بدون ردة، وقد أجاب سيادته عن أسئلة الصحفيين وأعلن أن زمن التصاق وش الرغيف بقفاه قد ولّي بغير رجعة، وأن الأجيال الجديدة من الطباقي ستتميز بالدقة في المعايير والمكونات والمدي الذي تغطيه المخابز ،وإصابة الهدف الذي هو في النهاية ملء بطون أبناء مصر. ومع هذا فقد أحس المصريون وقتها بأن الرغيف الطباقي ربما يكون معجونا بالماء الثقيل «قبل تنقيته من المجاري» وتناولوا سيرته بسوء، كذلك حاول بعض الرعاع المشككين(الذين يأكلون شُكُك) أن يثيروا اللغط حول البرنامج الطباقي، وحاولوا أن يعقدوا مقارنة سخيفة بين القمر الصناعي الذي أطلقته إسرائيل بغرض التجسس علي البلاد العربية و بين برنامج مصر الطموح للعيش السُخن، و لكن كتيبة الصحفيين الذواقة الذين حصل بعضهم - في تمييز واضح - علي ألف عيش (ألف عيش بلغة الأفران تعني ٢٠ رغيفا) - أقول إنهم وقد أسكرتهم طعامة الرغيف مع الجبنة بقوطة «كان هذا قبل عصر البعرور والأوزي» - انطلقوا يدافعون عن فكر الحزب الوطني في صيانة الأمن القومي المصري وركيزته الأساسية «الرغيف» وقاموا بإفهام الجمهور الجاهل بأن مصر منذ أن اعتمدت السلام خياراً استراتيجياً لها ومنذ أن آمنت بأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، أصبحت تري أن رفاهية شعب مصر أهم من أقمار التجسس أو السلاح المتطور الذي يغري بالحروب، و لما تساءل البعض عن كيفية حماية الرغيف الطباقي من الوحش الذري الرابض علي الحدود، كان الرد المفحم: بالسلام وبمزيد من السلام!
وهكذا مضت المسيرة سنة وراء سنة حتي دخلت الدنيا في عصر القنوات التي تبثها أقمار صناعية مزروعة في الفضاء.. ومرة أخري تعلو أصوات المشاغبين وأهل «اللماضة» يطالبون بأن نشارك في تصنيع القمر الذي ننوي شراءه و أن نشترط علي الدولة الموردة أن يقوم المهندسون والفنيون المصريون بالاطلاع والمشاركة في كل مراحل تصنيع القمر حتي يكتسبوا الخبرة والمعرفة التقنية كما فعلت الهند.. لا أن نشتري قمراً جاهزاً «تسليم مفتاح» دون أن نتعلم شيئاً. لكن الحكماء كالعادة يتدخلون في الوقت المناسب لينزعوا فتيل الفتنة و يفسروا للبسطاء ما استعصي عليهم، ويتم استدعاء شيوخ الحزب الوطني الذين يقدمون تفسيراً لوذعياً للأمر، ويشرحون للناس أننا خير أمة أخرجت للناس، وأن الله كما سخر لنا الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لنا الأنعام، كذلك سخر لنا الخواجة الأجنبي الذي يسهر في معمله يفكر ويبتكر ويخترع ويصنع أدوات الحضارة من تليفزيون و تليفون و طائرة و سيارة وبلاي ستيشن، ثم نحصل عليها ونحن علي الشلت قعود دون بذل أي مجهود.. فهل نكفر بالنعمة ونقوم نحن بالتفكير والاختراع ونمنح الكفرة خلاصة عقولنا علي الجاهز؟!.
وتمر الأيام ويندثر المشروع القومي للرغيف الطباقي الذي أطلقه علماء الحزب الوطني كبديل آمن عن الأقمار والصواريخ، ويبقي الرغيف الخنفشاري قاسي الوجه والسمات، ويقال إن ضغوطا أمريكية كانت وراء إيقاف البرنامج!.
في الوقت نفسه، أسفرت فضائيات الريادة المنطلقة من أقمار الخواجة «المغفل» عن مواد وبرامج في أكثر من ثلاثين قناة، من فرط حلاوتها جعلت النفس «تجزع» فلم يعد يراها أحد.
وهكذا.. في كل مرة واجهنا تحديا يقتضي استنفاراً علمياً واحتشاداً ذهنياً ونفسياً كان الحزب الوطني يؤثر البعد عن وجع الرأس ويعتصم بالحكمة ويلوذ بالكسل اللذيذ لحمايتنا من التيارات الوافدة، ولم يجد الحزب الوطني أبدا في صفره الكبير ما يدعو للخجل، لأنه علي الأقل يدرأ عنا حسد الحاسدين.
فما الذي حدث يا تري وجعل حزبنا الطباقي يغير اتجاهاته العلمية وتقاليده الراسخة التي عودنا عليها، وينحو فجأة جهة المفاعلات النووية التي طالما خوّفنا منها لأنها قد تفعل بنا ما أحدثه مفاعل تشرنوبيل الشرير بأهل أوكرانيا؟!
لن أدع الحيرة تستبد بي، فأياً كانت الإجابة فالحزب الوطني دائما يعرف أكثر، ومن الحماقة عدم تصديق قياداته، ومن الحماقة أيضا تصديق أصحاب الغرض الآثمون من القلة الحاقدة والشرذمة المندسة وسط الجماهير الشريفة، تروج لمقولات فارغة، ما أنزل الله بها من سلطان، من عينة أن الحزب الوطني إذا قال قولة حق.. فابحث عن السبوبة!.
كلمة أخيرة:
قال الشاعر فؤاد قاعود: غابت مفاتيح الأمان.. وما أسعفتش الكهانه
ما عدت عارف حاطط راسي ع المخدة.. ولاّ مريحها علي دانه
الكارثة مش باينه ملامحها.. لكنها جيانا جيانا
No comments:
Post a Comment