إعلانات رديئة في الشهر الكريم |
في شهر رمضان المبارك هناك تخمة في كل شيء، في الطعام والفوازير والمسلسلات والبرامج التليفزيونية، وبين هذه الأشياء لابد أن نجد تخمة مضافة متمثلة في الإعلانات التليفزيونية، خاصة إذا ذهبت إلي بعض الأقارب أو الأصدقاء، الذين لايزال لديهم هوائي يلتقط القنوات الحكومية المصرية، وتشاهد معهم بعض برامج ما بعد الإفطار، لتبتئس ليس فقط بسبب سوء هذه البرامج، إنما أيضا بسبب الإعلانات التي غزتها وقطعت أوصالها لتزيدها سوءا ورداءة، لأنها نجحت أن تنال «الحسنيين» أي تفاهة المضمون ورداءة الرسالة. هناك أولا الإعلانات التي تنتمي إلي «ثقافة الاستجداء»، وهي الخاصة بدعم مستشفي السرطان، وهو أمر أثبتت التجارب أنها غير فعالة في حث الميسورين علي تقديم الدعم، وإن هناك طرقًا كثيرة يمكن بها حث المواطنين ورجال الأعمال، علي دعم هذا المشروع بطرق مختلفة عن تلك التي يقدمها التليفزيون المصري للأيتام ومرضي السرطان، وتتمثل في حملات توعية شعبية بين الناس، وخاصة الميسورين منهم، من أجل خلق وعي عام وليس جو «شحاته عام» لدعم هذه المؤسسات. وبما أن الحكومة اعتادت علي الطريقة التليفزيونية، التي فيها كثير من الاستسهال، وقليل من الجهد، لدعم هذا المستشفي، فإن كارثتها الحقيقية لم تكن أساسا في هذه النوعية من الإعلانات، إنما في إضافة مشهد جديد، تمثل في استيراد مجموعة من الأجانب في هذا الإعلان، بينهم صبية إيرانيون، والباقون كنديون، يعلنون أن دفاعهم عن قيم «العدالة الاجتماعية» و«التضامن الإنساني»، هي التي دفعتهم إلي دعم بناء مستشفي السرطان، وهي القيم التي طلب منهم أن يرددوها في الإعلان التليفزيوني، في ظل واقع مصري لا يعرف عنها شيئا. ويبدو أننا اعتدنا أن نستورد كل شيء، ونتحدث أيضا في أي شيء، حتي لو كان عن قيم لا نعرفها، بل ولم نسع إليها، وبالتأكيد فهو أمر سهل بالنسبة للحكومة أن تستورد مجموعة «خواجات»، ليتحدثوا عن العدالة الاجتماعية، بدلا من أن تسعي إلي تطبيقها في مصر، التي لم تعرف في تاريخها الحديث تفاوتا اجتماعيا وطبقيا مثل الذي نعرفه الآن. والحقيقة أنه لو كانت هناك عدالة اجتماعية حقيقية، لما احتاجت الحكومة أن تغرس ثقافة الاستجداء والتسول، باعتبارها من «القيم العليا» لهذا العصر، ولكان مشروع بناء مستشفي السرطان قد أنجز دون الحاجة لاستيراد مواطنين كنديين لإلقاء خطبة في إعلان مصري. أما النوعية الثانية من إعلانات التليفزيون الحكومي، فهي تلك التي يمكن وصفها بكل أسف بالإعلانات غير الأخلاقية، التي تعكس حجم الانهيار القيمي، الذي أصاب عقول مسؤولينا، ونظرتهم إلي الأخلاق والصح والخطأ، والحلال والحرام، وكل القيم النبيلة التي يفترض أننا تربينا عليها، وهنا يظهر بجلاء هذا «الإعلان السياحي» عن مسألة التحرش الجنسي، التي يتعرض لها بعض السياح الأجانب. ويبدأ الإعلان بجلوس سائحتين أجنبيتين بجوار شاب مصري لمشاهدة حفلة رقص شعبي في أحد المسارح الصغيرة، ويبدأ أحد الشباب في وضع يده علي جسد إحدي هاتين الفتاتين، فتنهره بشده وتنصرف تاركة المكان، فيتحسر صاحب المتجر أو المسرح، ليس علي هذا السلوك، إنما نتيجة ضياع الإيراد، وتظهر خزينته خاوية من النقود، ثم يعود هؤلاء الشباب في المشهد التالي، ويقومون بترك أماكنهم للسائحات والترحيب بهن، فتكون نتيجة هذا السلوك الجديد أن غرق صاحب المحل في «الرخاء»، ونشاهده يعد النقود بطريقة المرابي اليهودي في روايات شكسبير. وهنا تبدو الرسالة شديدة السوء حين ربطت بين الأخلاق ورفض التحرش الجنسي، وبين جمع المال، أي أنه يجب التوقف عن ممارسة التحرش الجنسي، حتي يسترزق التجار ورجال الأعمال والدولة «ويأكلوا عيش»، وليس باعتباره سلوكًا منحطًا يجب أن يسعي الجميع لوقفه بالقانون، بصرف النظر عن نتائجه المادية. هل يعقل أن يربط مجتمع بين دفاعه عن الأخلاق وبين الثراء المالي؟ وهل يصبح التحرش بالفتيات المصريات حلالاً، لأنه بلا عائد مالي، أو لأنهن لا يجلبن العملة الصعبة للبلد، وأن فعل ذلك بالأجنبيات حرام لأنهن يجلبن المال؟. إن هذه الطريقة في التعامل مع أمراضنا الاجتماعية زادتها سوءا، وأن محاربة جريمة مثل التحرش الجنسي يجب أن تتم بمعزل عن عائدها المادي، وإلا حللنا السرقة والغش والرشوة، باعتبارها طرقًا أيضا للتربح، وهو ما يبدو أننا في طريقنا لفعله. والحقيقة أن هذا الإعلان لم يخرج علي ثقافة عامة غرستها الحكومة في المجتمع، كقول أحد المسؤولين بعد حادثة إرهابية «الحمد لله كل الضحايا من المصريين». أو النظر إلي السياح الذين ماتوا من جراء بعض هذه العلميات باعتبارهم أرقامًا مالية، وليسوا أرواحًا سقطت ضحايا هذا الإرهاب الأسود. أما النوع الثالث، فهو ما يمكن تسميته بالإعلانات البلهاء، وهنا يأتي إعلان الشاب الذي يجلس في مقهي، ويناديه «داعي» مطالبا إياه بالذهاب إلي محطة القطار من أجل البحث عن عمل، ويدعوه إلي أن يعمل في أحد المصانع كعامل حتي لا يبقي عاطلا «ويفوته القطار». والمؤكد أن مشهد خريجي الجامعات الذين يرغبون في العمل في المقاهي وفي المصانع أكثر من أن تعد، وأن المشكلة الحقيقية في أن يجدوا أي عمل، وليس في أن بعضهم «يتبطر» علي بعض الأعمال تحت حجة أنه يحمل «مؤهل عالي». إن مشكلة مصر في البطالة، وليس في رفض البعض القيام بأعمال لا تتناسب مع مؤهلاتهم، وهم جزئيا محقون في ذلك، ولكنه يطرح سؤالاً آخر يتعلق بأسباب أن تصرف الدولة علي آلاف المتعلمين وتوهمهم أنهم حصلوا علي مؤهل عال، ثم بعد ذلك لا يجدون أي فرص عمل حقيقية تتناسب مع ما سمي «بالمؤهل العالي». أما النوع الرابع فهو يمكن وصفه بالإعلانات التعبوية التي تفكرك بالنظم الشمولية أو إعلانات الحقب الستالينية في الاتحاد السوفيتي المنهار، رغم أنها صادرة عن أحد رموز الفكر الجديد، وهو إعلان «حديد عز» الذي يعلن فيه العاملون بصوت واحد سعادتهم بالعمل مع أحد رموز الاحتكار في مصر، وأنهم لا يمكن أن يعملوا في مكان آخر غير هذه الشركة، وهم «هتيفة جدد» حتي لو كانوا يبدون أكثر أناقة من هتيفة الحرس القديم في الحزب الحاكم، الذين صرنا نترحم عليهم، رغم أنهم أساءوا إلي البلد، وأضاعوا فرصًا عديدة للإصلاح، وأخطأوا في الكثير، ولكن كان في عصرهم هناك بلد ودولة ونظام، وليس عزب وبقايا نظام وما يشبه الدولة. |
Thursday, October 11, 2007
حلوة دي
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment