بقلم خالد الخميسي ١٣/٨/٢٠٠٧
كنت دائم التساؤل حول الموقف، الذي يجب أن أتخذه أمام أي شخص يواجهني بحقيقة أن مصرنا غير نظيفة وأن المصريين بطبيعتهم «وسخين» وأن الأمر ليس له علاقة بالفقر، وأن الريف المصري هو أوسخ ريف شاهده محدثي في حياته.
وعلي مر سنوات عمري ابتدعت عشرات النظريات العلمية جدا السوسيو - اثنية والجيو - باذنجانية المرتبطة بالفلاحة والطمي والطين والفن للدفاع المستميت الذي لا هوادة فيه أمام تلك الترهات، ولكن عندما وطأت قدمي الأراضي المقدسة لتلك القرية، وهي مقدسة لأن سكانها لم ينظفوها من العصر الجيولوجي الأول، ألقيت بكل نظرياتي التبريرية داخل سلة مهملات ذهني، ولكن الشجاعة لم تواتني للقيام بمحو مقتنيات تلك السلة حيث إنني كنت متأكدا أنني سوف أحتاجها في يوم من الأيام. وعبر طريق بمحاذاة ترعة ضيقة جلست السيدات والبنات علي الجانبين يغسلن الصحون والحلل والملابس بجلابيبهن التي كانت في زمن ما ملونة.
ولا أنكر أنني اختلست النظر إلي وجوه بعض الفتيات الجميلات جمالا مصريا باهرا، وبادلتني إحداهن نظرة ناعسة، غردت علي إثرها البلابل في قلبي، واكتست القرية أمام عيني بحصيرة من الورود. وصلت إلي بغيتي وهو منزل من الطوب الأحمر يسكن فيه الأستاذ حسين.
كانت السلالم غير اعتيادية علي الإطلاق، فكل درجة علي ارتفاع مغاير تماما لزميلتها مع وجود عشرات الثقوب والحفر، وكان في الجو ظلام خفيف رغم أن النهار لم يكن قد انتصف بعد، وقد احتجت لكل طاقاتي الكامنة ومرونتي لأتمكن من الصعود للطابق الأول.
فتح لي الباب الأستاذ "حسين" أمين عام الحزب الوطني في القرية وهو رجل في الأربعين من العمر، مريح الوجه، يبدو علي ملامحه نقاء السريرة، يتكلم بلكنة ريفية محببة، أدخلني إلي شرفة مفتوحة كان يجلس فيها "حودة" ابن عمه العاطل عن العمل، وابن عم آخر عاد منذ أيام من غربة طالت في إيطاليا كان يعمل خلالها مرمطون ثم طباخا في مطعم ليدخر مبلغا يشتري به قطعة أرض، وبعد أن وصلت مدخراته إلي عشرات الألوف من اليوروهات عاد إلي بلده. وامتد اللقاء إلي المغرب، وفاق كرمهم معي كل حد، من شاي وينسون ونعناع إلي وليمة من ولائم القرن الثالث عشر، تبادلنا خلالها حوارا من القلب:
الحزب الوطني مش مهتم غير بالاشتراكات، الاشتراك بثلاثة جنيه ونصف في السنة، وبالمبلغ ده العضو ياخد كارنيه الحزب، وكل شوية يطلب الحزب تجديدا نصف سنوي من التشكيل نفسه، وتلاقيني أنا باعتباري أمين الحزب بادفع فلوس من جيبي للتجديد، طب أنا من كام يوم بس اضطريت أدفع ١٠٠ جنيه للحزب عن المشتركين الجدد، ما هما ما عندهمش فلوس ياكلوا، وطبعا ما عندهمش انتماء للحزب، إذا كان ما حدش عنده انتماء للوطن أصلا، لكن تقول إيه بقي؟ النفر من دول يقول لك كارنيه أبيض يمكن ينفع في اليوم الأسود اللي إحنا عايشين فيه.
وبصراحة، الحزب ما بيعملش أي حاجة تخللي أي واحد ينتمي إليه، أنا بقالي سنين أمين الحزب ما باسمعش من الحزب غير وعود وبس.. وأرقام للصبح، إحنا قعدنا في مؤتمر في كفر الدوار مع جمال مبارك وأحمد عز، قبل انتخابات مجلس الشعب في حوالي منتصف ٢٠٠٥ يعني من سنتين، يوميها جمال مبارك قال لنا: إنتم القاعدة بتاعتنا، وإنتم أدري مننا باللي إنتم عايشين فيه، وإنتم اللي ح تختاروا المرشحين عن طريق المجمع الانتخابي. وعارف حصل إيه في النهاية اختاروا واحد كان حاصل علي أقل نسبة أصوات في المجمع الانتخابي.
يوميها كنت باسمع كلام جمال مبارك وكنت الوحيد اللي مصدق، قلت لنفسي راجل بيحضر نفسه يبقي رئيس جمهورية لازم أصدقه، وكل اللي حواليا واحنا قاعدين في المؤتمر عمالين يتنأوروا ويقولوا كلام هجص في هجص ومش ح يحصل اي حاجة من الكلام ده، و طبعا طلع عندهم حق وما حصلش أي حاجة. لكن تقول إيه؟ أصل البني آدم لازم يتقرص عشان يتوب.
قالوا لنا كمان إن إحنا ح نعمل اجتماع لجنة سياسات أول خميس من كل شهر -علشان نكمل مشوار أم كلثوم الله يرحمها- كل أمين وحدة حزبية يعرض مشاكل قريته للمناقشة مع المسؤولين التنفيذيين، مثلا بتوع الكهرباء، بتاع الطرق، عملنا الاجتماع ده مرة واحدة من ساعتها ، تصدق من سنتين يا راجل وما تكررش الاجتماع تاني أبدا، أم كلثوم استمرت عمرها كله تغني أول خميس من كل شهر والحزب الوطني ماعرفش يتنّيها، واحدة عاشت والتاني حيموت. أنا بأشتغل في الحزب تطوعي، ده أنا كمان زي ما قلت لك بأدفع فلوس من جيبي.
في القرية مافيش مقر للحزب، وطالبت أكتر من مرة، إنت عارف بأعمل الاجتماعات فين؟ في بيتي، ومراتي خلاص وجِّت من قولة الشاي والقهوة، باحاول أرفع الوعي السياسي عند الناس.. باحاول أشتغل في كارثة الصرف الصحي.. باحاول أفيد بلدي وناسي.. كل ده بأعمله ليه؟ علشان الواحد يشعر إن له قيمة، الواحد مننا محتاج يحس إنه بني آدم عنده قيمة مش بهيمة.
لكن للأسف الواحد مش حاسس إن له قيمة خالص. بس مصاريف وغرامة شاي وسكر وخلاص. كان عندي أمل أعرض مشاكل قريتي، وأوصل الآهات للمسؤولين في اجتماعات يوم الخميس اللي ما حصلتش. أحس إن لحياتي معني، لكنهم داسوا علي كل أمل جوّه الواحد.
شعرت لأول مرة منذ جلوسي معهم بوطأة المتاعب علي كاهل حسين، بدا أكبر سنا، تهدلت كتفاه وانحني من الأسي وخرج صوته هذه المرة خافتا خجولا: أنا من كام سنة لو كانوا قالوا لي ارمي نفسك في البحر علشان البلد ما كنتش حأفكر ثانيتين، النهارده لو ولّعت مش ح اتحرك من سريري.التفت إلي الداخل وصاح: الشاي يا جماعة
No comments:
Post a Comment