جارنا الأسطي محمود رجل عجوز جدا. وهو يعيش مع زوجته البدينة, التي تتحرك بصعوبة, وتصغره قليلا.
الأسطي محمود إذن رجل ضامر الوجه ونحيل, وفي كلوة يده اليمني ورم جانبي بارز, ويقول إن تحته شظية صغيرة موجودة من حرب فلسطين, وهو يلمع حذاءه جيدا ويرتدي القميص المكوي والبنطلون. وعندما يعود من الخارج يفرد البنطلون وينظفه بالفرشاة وهو واقف بالفانلة واللباس ويعلقه علي الشماعة ويضعه داخل الدولاب, وزمان كنت أجلس معه في ركن الصالة أمام الطاولة وهو يصمم موديلا لحذاء رجالي أو حريمي أو صندلا للأطفال علي فرخ من الجلد المدبوغ ويقصه, ثم يأتي بلوح رقيق من الزنك ويضع عليه هذه التصاميم الجلدية في مقاساتها المختلفة, ويقص الصاج بالمقص الحديدي القاتم إلي قطع تمثل وجه الحذاء وكعبه وجوانبه, ويذهب بمجموعة المقاسات تلك إلي الورش التي كانت تتعامل معه.
في ذلك الوقت كنت صغيرا وكان هو شابا وزوجته جميلة وبيضاء ولا تجلس مع الضيوف في الصالة, ولكنها تعبر من الحجرة الداخلية إلي المطبخ, وهو توقف عن هذا العمل منذ سنوات طويلة بسبب شيوع الأحذية الجاهزة وعدم حاجة أصحاب الورش إلي تصميماته, وعندما أزوره الآن بعدما خلت مقدمة رأسه من الشعر وانحني وصار وحيدا, أري في ركن الصالة التي كنا نجلس فيها لفة متربة من الجلد مازالت باقية, وكذلك الطاولة التي كان يعمل عليها خالية من أي شيء إلا المقص الحديدي الأسود والمسطرة المعدنية, لأنه يرفض استخدامها في غرض أو آخر.
وهو لم ينس عمله القديم, لأنه كثيرا ما كان يتطلع إلي قدمي ونحن نجلس معا ويطلب مني أن أخلع فردة الحذاء.. كان يقلب فيها جيدا ويعطيني إياها.. أحيانا يشير بإصبعه ويقول لو أن هذه المقدمة كانت أعرض أو أن هذه الفتحة كانت أطول لأصبح مريحا أكثر.. وفي بعض الأحيان كان يهز رأسه, بعد التأمل, وتدمع عيناه ولا يعلق بشيء, وأحيانا كنت أراه وقد فك ريش المروحة ذات القاعدة وجلس علي الكنبة شبه عار وهو ينظفها من التراب ويمسحها بفانلة قديمة منزوعة الأكمام ويخبرني أنها مروحة أصيلة لأنها تلم الغبار الذي في الحجرة وتنقي الهواء, لذلك يقوم بتنظيفها كل شهر أو ستة أشهر, وأنا من ناحيتي لم أكن أخبره أن كل المراوح تلم التراب في ريشها ليس بقصد تنقية الهواء ولكنها تفعل ذلك وحدها وبشكل طبيعي جدا.
وهو رجل صموت وطيب رغم جهامته, ويدخن المعسل, يشعل الفحم في الموقد الصغير ويضعه علي درجة السلم عند الممر بين شقته وشقتنا, وبعد أن تستوي النار يأخذها ويدخل, يعد الشيشة ويرفعها عاليا بيده اليمني ويمسك خرطومها باليد الأخري ويعبر الصالة وهو ينقل قدميه بحذر حتي يدخل المرحاض يقضي حاجته وهو يدخن.. وعندما كانت الحكومة تغير الساعة في التوقيت الصيفي والشتوي, لم يكن يغير ساعته, ويقول إن هذا موضوع يخص الحكومة ولا يخصه في شيء.. وهو يعيش الآن علي المبلغ الزهيد الذي تصرفه له النقابة وعلي المعونة الشهرية التي يقدمها له ابنه الكبير.
وفي أيام الوفرة كان قد أصر علي تعليم أبنائه تعليما عاليا.. البنت متزوجة من ممدوح المحامي الأحول ولديها أبناء, والولد الكبير مهندس ناجح وبدين قليلا وفي عينيه الواسعتين حزن عميق, وعندما تنكسر نظارة الأسطي الطبية, وهو كان يكسرها كل شهرين أو ثلاثة, كان يذهب لزيارته ويجلس يشرب الشاي ثم يتناول نظارة هذا الابن الطبية من المكان الذي يجدها فيه ويرتديها ويترك المكسورة مكانها.. وعندما يقول الولد:
ــ بابا لازم تعمل كشف, لأن النظارات دي لها مقاسات.
كان يضبطها علي وجهه وينظر إلي التليفزيون في الناحية الأخري من الصالة ويحرك رأسه من أعلي إلي أسفل ويأخذها وينصرف
Wednesday, July 11, 2007
ابراهيم اصلان الاهرام
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment