/ علاء الأسوانى عن الحملة الشرسة على حرية الصحافة
قضية مصر
فى الثمانينات , أثناء دراستى فى الولايات المتحدة أعلنت وسائل الإعلام فجأة أن الرئيس الأمريكى رونالد ريجان قد أصيب بمغص شديد ولم يلبث الفحص الطبى أن كشف عن إصابته بورم خبيث فى الأمعاء مما إستلزم إجراء جراحة عاجلة ..
وأثناء ذلك أصدر البيت الأبيض عدة بيانات شرح فيها حاله الرئيس بالتفصيل . نوع الورم الذى ازيل من الأمعاء وحجمه ومدى خطورته وإحتمال إنتشار السرطان فى الجسم الخ ....
بل أن الجراح الذى أزال الورم من أمعاء ريجان أجرى عدة لقاءات فى التليفزيون أجاب فيها بوضوح عن كل ما يخطر على بال الناس من أسئلة عن حالة الرئيس وكان السؤال الذى يتكرر دائما : هل تسمح حالة الرئيس بعد الجراحة بإتخاذ القرارات السليمة ؟؟؟
وكان رأى الجراح ان الرئيس لن يستعيد قدراته الذهنية تماما قبل شهر كامل من العملية لأن الأدوية التى يتناولها قد تؤثر على تركيزه ..
هذه الشفافية الكاملة فى التعامل مع صحة رئيس الدولة ليست قاصرة على الولايات المتحدة بل هى من سمات الدول الديمقراطية جميعا . لأن صحة رئيس الدولة لا تخص أسرته فقط وإنما تخص ملايين المواطنين الذين تتأثر حياتهم بقرارات الرئيس .
هذه الفكرة الديمقراطية البديهية لا توجد لدينا فى مصر . فنحن فى الواقع لا نعرف شيئا عن صحة الرئيس مبارك لأن النظام يتعامل مع المصريين ليس بإعتبارهم مواطنين وإنما رعايا وعبيدا لا يحق لهم ان يعرفوا شيئا عن صحة سيدهم الرئيس . واليوم يواجه واحد من ابرز الصحفيين فى مصر وأكثرهم وطنية وموهبة ,
إبراهيم عيسى عقوبة الحبس بتهمة ترديد الشائعات عن مرض الرئيس مبارك .. والحق أننى لم استطع فهم هذه التهمة .. ان الشائعات ترددت بقوة عن مرض الرئيس لأن أجهزة الدولة لم تعتد إعلان الحقيقة .
ثم ما العيب فى ان يمرض الرئيس مبارك ..؟ هل المطلوب ان نتعامل مع الرئيس مبارك وكأن ذاته مقدسة منزهة عن المرض والضعف ..؟
ألم يمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أجمعين ؟! . ما جريمة إبراهيم عيسى التى يواجه الحبس بسببها ..؟ ان جريمة إبراهيم عيسى الحقيقية ليست الكتابة عن مرض الرئيس ..
لكن جريمته التى لا تغتفر لدى النظام انه جعل من جريدة الدستور منبرا لمحاربة الظلم والإستبداد وكشف الفساد ورفض التوريث . جريمة إبراهيم عيسى أنه انحاز للحق والعدل ..
2
( اليوم , ها نحن نرى رئيس بلادنا المغرور , وهو بالمناسبة يتصف بغباء منقطع النظير , يشترك مع قادته العسكريين الجبناء فى أرسال أولادنا إلى الموت .)
الجملة السابقة وردت فى مقال شهير نشرته الصحافة الأمريكية على نطاق واسع عن الرئيس جورج بوش .
كاتبة المقال اسمها سيندى شيهان . CINDY SHEEHAN
وهى من أبرز الناشطين ضد حرب العراق والشتائم التى استعملتها الكاتبة فى وصف رئيس الدولة مسألة شائعه جدا ليس فقط فى الصحافة الأمريكية وإنما فى كل الديمقراطيات الغربية .
فالكتاب هناك يصلون فى إنتقاد الرؤساء الى حد مقذع فلا يلاحقهم أحد ولا يحبسهم أحد .. والمفارقه أن القانون هناك يسمح بتوجيه مثل هذه الألفاظ فى الصحافه إلى أكبر مسؤل فى الدولة .. لكنه فى نفس الوقت لا يتسامح اطلاقا فى الإعتداء على سمعة الأفراد العاديين . فلو انك وصفت جارك او زميلك فى العمل بالغباء على الملأ لإستطاع ان يلاحقك قضائيا .. لكنك اذا كتبت تصف رئيس الدولة بالغباء فأن القانون لن يدينك أبدا ..
ذلك ان القانون فى الدول الديمقراطية بقدر تشدده فى حماية سمعة الأفراد العاديين , يسمح بأقصى درجات النقد للمسؤل .. والفكرة هنا ان من ينتقد مسؤلا عاما . لا يكون دافعه شخصيا وانما غرضه حماية المصلحة العامة ..
من هنا يوفر النظام الديمقراطى الحماية الكاملة لكل من ينتقد المسؤلين مهما تجاوز فى نقده .
والمسؤلون فى الدول الديمقراطية قد تعودوا على قسوة النقد وهم يعتبرون ذلك جزءا من اعباء المنصب العام
يحكى ان الرئيس الامريكى ترومان جاءه ذات يوم . أحد وزرائه يشكو من قسوة الهجوم عليه فى الصحف الأمريكية فاستمع اليه ترومان بهدوء ثم ابتسم وقال : اذا قررت ان تعمل خبازا فلا يحق لك ان تشكو من حرارة الفرن ..
وفى فرنسا جريدة أسبوعية شهيرة تصدر كل أربعاء منذ عام 1915 اسمها البطة المقيدة . LE CANARD ENCHAINE تخصصت فى السخرية من كبار المسؤلين فى الدولة الفرنسية .
وكثيرا ما يتم تصوير رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية على هيئة حيوان او أمرأة فى رسوم الكاريكاتير التى تنشرها وقد كان الجنرال ديجول يضيق ذرعا بسخرية هذه المجلة لدرجة انه لم يكن يحتمل قراءتها فكان كل اربعاء يسأل مساعديه : ماذا كتبت البطة اللعينة عنى هذا الصباح ...؟
وهو برغم كونه رئيسا للجمهورية الفرنسيه وبرغم كراهيته لما يكتب عنه فى تلك المجلة لم يفكر يوما فى تعطيلها او مقاضاة كتابها .. ولو انه فكر لما استطاع لأن حرية التعبير فى فرنسا من مكتسبات الأمة الراسخة لا يستطيع أحد ان ينال منها . كل هذه الأمثلة تؤكد حقيقة واحدة : ان ما يسمى بإهانة رموز الدولة تهمة وهمية لا وجود لها فى النظام الديمقراطى , فلا يوجد فى الديمقراطية رموز للدولة وانما يوجد مسؤلون انتخبهم الشعب لخدمته ومن حقه ان ينتقدهم ويعزلهم عن طريق الإنتخابات الحرة .
ان تعبيرات ( اهانة رموز الدولة ) و ( تكدير السلم الإجتماعى ) و ( الحض على إزدراء النظام ) و( إثارة البلبلة ) الى آخر هذه التهم السخيفة هى من مخترعات الأنظمة الإستبدادية للتخلص من المعارضين وتكميم الأفواه حتى يفعل الحاكم المستبد ما يريده فى الوطن والناس فلا يجرؤ أحد على مساءلته ...
3
المنافقون , الطبالون والزمارون , من كتبة الحكومة يمنون على الشعب المصرى بما يسمونه ( حرية التعبير فى عصر مبارك ) والحق ان هذه الحرية لم توجد قط ... لأن حريه التعبير الحقيقية وسيلة للتغيير وليست وسيلة للتنفيس .
حرية التعبير الحقيقية تبدأ بالكتابة وتنتهى بتأكيد سلطة الشعب والقانون . فى البلاد الديمقراطية اذا كتبت مقالا تتهم فيه مسئولا بتجاوزات فلابد عندئذ من محاسبة هذا المسؤل حتى تتم تبرئته او إدانته وعزله وعقابه .
هذه حريه التعبير الحقيقية .
اما ما يحدث فى مصر فيندرج تحت حرية الكلام وليس حريه التعبير .
فأنت تكتب وتكتب فلا يهتم النظام اطلاقا بما تكتبه بل على العكس . كلما ذاد الغضب والشبهات على مسئول ما إزداد تمسك النظام به ..
لقد كانت المعادلة السياسية فى مصر : أكتب ما تشاء والنظام يفعل ما يشاء ..
لكن النظام المستبد لم يعد يحتمل حتى هذا الهامش من حرية الكلام .
واليوم يقف زملاء وأصدقاء من افضل الكتاب الوطنيين فى مصر .. امام المحاكم ..
يواجهون عقوبة الحبس .. ليس لأنهم عذبوا الأبرياء حتى الموت وليس لأنهم تسببوا فى قتل ألاف المصريين بواسطة عبارات الموت والمبيدات المسرطنة ... وليس لأنهم تقاضوا العمولات بالملايين من مال المصريين الفقراء .. لكن النظام سيلقى بهم فى السجون لأنهم احبوا بلادهم ودافعوا عن حق المصريين فى حياة إنسانية كريمة ..
ان النظام يريد إرهاب أصحاب الرأى واسكاتهم حتى يتم توريث الوطن من الأب إلى الأبن فلا يجرؤ احد على الإعتراض والا كان السجن مصيره ...
إبراهيم عيسى وعبد الحليم قنديل ووائل الإبراشى وعادل حمودة وانور الهوارى ومحمود غلاب وامير سالم .
لا أستطيع ان اتخيل ان هؤلاء الرجال ستقيد أيديهم بالكلابشات وسيقفون خلف القضبان فى محكمة الإستئناف
وكأنهم قتلة او لصوص بينما ينعم ممدوح إسماعيل وغيره من الذين اجرموا فى حق المصريين بالحياة الرغدة الآمنة ..
ان الحكم بالحبس على اصحاب الرأى ليس قضيه مهنية تخص الصحفيين وحدهم , كما يسعى اذناب النظام إلى تصويرها . فهؤلاء الشرفاء لن يحبسوا من اجل مخالفات إدارية بل هم يدفعون ثمن مبادئهم وآرائهم .
انهم يواجهون الحبس لأنهم أحبوا مصر ودافعوا عنها بأقلامهم .. لقد حلموا بالحرية والكرامة لكل المصريين .
واجبنا اليوم . جميعا . ان نقف مع هؤلاء الشرفاء .. ان ندافع عنهم كما دافعوا عنا .. ان قضيتهم تخص مصر كلها .. مصر لن تنساهم ولن تتخلى عنهم ... مصر كلها ستقف معهم وستقول كلمتها ..
وستكون كلمتها صفعة على وجه الظلم والإستبداد الجاثم على أنفسنا ...
No comments:
Post a Comment