مذكرات مواطن لا منتم
للمرة المليون أحاول الانتماء فأفشل، رغم ذلك فقد عقدت العزم علي ألا أيأس أبداً. أما الآن ولحين إشعار آخر فإنه يمكن تصنيفي كمواطن لا منتم، الانتماء عندي هو وثيقة مقدسة يتبادلها الوطن والمواطن بعد التوقيع عليها من الطرفين بالموافقة.. بمعني أنه لكي أنتمي إلي وطني فإنه يجب علي وطني أن ينتمي إلي والعكس صحيح.. المشكلة أنه منذ أكثر من خمسين عاما قيل لي: «أيها المواطن المصري لا شأن لك بشيء نحن ندبر لك السكن والطعام والشراب والكساء والتعليم والعمل ونقص عليك أحسن القصص ولك أن تقبلها أو ترفضها فأنت حر، لكن إياك أن تخرج هذا الرفض من قفصك الصدري حتي لا تواجه ما يزعجك ويؤذيك ولا تقدر عليه أبدا، أما من حيث التسلية فسوف نمطرك بمباريات كرة القدم ونغرقك في مسلسلات التليفزيون والأفلام الأمريكية، وحذار من التدخل فيما قد تتصور أنه يعنيك».
ثم يتضح في النهاية أنه لا طعام ولا سكن ولا علاج ولا تعليم ولا عمل ولا يحزنون، ورغم ذلك فقد التزمت الصمت كشأن غيري من المواطنين، وكانت النتيجة أن أذهب إلي مصلحة حكومية فأجد إضرابا سلبيا عن العمل لا تفضه -وقتيا- لا الرشوة أعبر الطريق فلا أجد أحدا يحترم قانون المرور، أتساءل عن مسئولية الوطن تجاه حمايتي من جشع التجار الجنوني فلا أجد إجابة، أبحث عن سكن يليق بآدميتي ودخلي فلا أجد إلا ناطحات التمليك أمرض فلا أجد سريرا في مستشفي وإن وجدته لا أجد الدواء ولا حتي القطن والشاش، أما إذا اضطررت إلي مستشفي خاص فلن أستطيع تجاوز صالة استقباله المكيفة من شدة الرعب، طابع التأمين الصحي رفعوا قيمته فجأة من خمسة وعشرين قرشاً إلي مائة قرش أعتقد أنها المرة الأولي في تاريخ البشرية التي يرفع فيها سعر سلعة عشرين ضعفا مرة واحدة، ألغوا أدوية الأمراض المزمنة من التأمين تمهيداً لخصخصته رغم اعتراض المواطنين ورغم أنفهم سبق أن استولوا علي أموال التأمينات الاجتماعية وأعطوها لوزارة المالية.. من لا يملك أعطي من لا يستحق.
أبحث عن وظيفة فيسبقني إليها صاحب الواسطة أفكر في شراء كتاب فأكتشف أن ثمنه يعادل أجر يوم كامل من راتبي الشهري، أدخل السينما فيروعني الانحطاط الأخلاقي الذي انحدر إليه الشباب، وابحث عن الممثل النيابي لدائرتي البرلمانية فلا أجد أحداً يعرفه أو سمع عنه أو رآه.. إذن فقد أصبحت الرسالة الموجهة الآن إلي الشعب تحمل المعني الآتي:
«أيها المواطن المصري لا شأن لك بشيء نحن فشلنا في أن نوفر لك الطعام أو العمل أو السكن أو التعليم أو العلاج أو أي شيء آخر، ومع ذلك فمازلنا نقص عليك أحسن القصص ولك أن تصدقها أو لا تصدقها فالباب يفوت جملا بأكمله، ولك أيضاً أن تتكلم وتصرخ وتكتب في أي جريدة ما تشاء فلن نعبأ بك علي الإطلاق، واحذر أن تسيء الظن بحكوماتك القوية المتعاقبة التي تفننت في رفع ضغط دمك وسد شرايينك وتسميم كليتيك، واياك أن تقارن انتماءك بانتماء المواطن السويدي أو الأمريكي وإلا انفلت منك جهازك العصبي ودخلت في متاهة الأمراض النفسية والعصبية أجارك الله.. حاول أن ترفه عن نفسك بالاستماع إلي أغاني الانتماء الجميلة مثل أغنية يا حبيبتي يا مصر، أو المصريين أهمه، أو حب الوطن فرض علي أفديه بروحي وعنيه، وأعلم أن تلحين وغناء هذه الأغاني قد كلف الفنانين إقامة طويلة بفنادق الخمسة نجوم ليحرقوا أعصابهم -يا ولداه- من أجل راحة أعصابك».
عظيم جدا.. وصلتني الرسالة كشأن غيري من المواطنين، ولكن لأنها وثيقة تعاقد موقعة من طرف واحد فإنها تعتبر باطلة قانونا، بحيث يصبح الانتماء هنا شبيها بحب أفلاطوني من طرف واحد.. وإلي من لم أستطع أن أصل بقولي إلي فهمه حتي الآن أسوق إليه مثلا بسيطاً.. فالرجل حين يتزوج لابد أن يرتبط بامرأة يحبها وتحبه ينتمي إليها وتنتمي إليه، ومن معاشرتهما المشروعة تتولد ثمرة لهذا الانتماء المتبادل، تنتمي إليهما معا وكذلك حين ينتمي الوطن إلي المواطن والمواطن إلي الوطن، تكون الثمرة الطبيعية لهذا الانتماء هي الحياة السعيدة للمواطن والتقدم والازدهار لوطنه، والخير يعم علي الجميع.
وكما أنني لم أستطع الانتماء لوطني فإنني لم أستطع أن أتزوج حتي الآن رغم تجاوزي الخمسين، إنني محروم من الحياة في تبات ونبات ومن خلفة الصبيان والبنات.. شكراً يا وطن.
سعيد سالم
No comments:
Post a Comment