الإصلاح من داخل النظام: أي شروط |
اعتادت مصر منذ تأسيس محمد علي الدولة المصرية الحديثة في ١٨٠٥ أن تجري إصلاحاتها الكبري من أعلي، وأن يكون قدرها في يد حاكم «صالح» يضيف إليها ولا يخصم، أو آخر «طالح» ينتقص منها ولا يضيف. وعرفت مصر أيضا علي مدار هذين القرنين، آلاف المناضلين السياسيين الذين حاولوا أن يغيروا هذه النظم ولم ينجحوا، وحلموا بوطن تعم فيه الحرية والعدالة ولم يجدوه، وظلت آلية التغيير يحتكرها النظام من داخله، سواء في ظل العصر الملكي أو الجمهوري. والمؤكد أن قصر فترة بقاء الرئيس عبدالناصر في الحكم ـ ١٦ عاما ـ والرئيس السادات ـ ١١ عاما ـ قد أدت إلي أن يكون تقيمهما علي ضوء أفعال قاموا بها وسياسات أخطأوا أو أصابوا فيها، وانتقد المواطنون عبدالناصر والسادات علي أفعال قاموا بها، وغاب عن المفردات اللغوية لتلك الفترة أي حديث عن الجمود والتكلس والتبلد الذي عرفناه في العهد الحالي. فقد أدار مصر بطريقة المتجر الصغير أو المعسكر النائي، غير المطلوب منه أن يصنع سياسة ويتخيل مستقبلاً ويضع استراتيجية، إنما المطلوب فقط الحفاظ علي المظهر فيفتح المتجر في موعده، ويبقي العاملين فيه عدداً أكبر من ساعات العمل المحددة، ويصبح معيار العمل هو القدرة علي «التنقل» من مكان إلي آخر حتي لو كان بلا مردود ولا رؤية. في ظل هذه الأجواء صار «كود» الإصلاح في هذه اللحظة، هو كسر معادلة الركود المهيمنة علي العقول والقلوب معا، والمفارقة الحقيقية أنه في داخل الدولة وفي قلب النظام أفراد كثيرون إصلاحيون، يرغبون في بناء دولة مؤسسات، ونظام سياسي كفء وديمقراطية سياسية حتي لو كان لها حدود، ولكن نفهمها، ونعرف قواعدها وحدودها، ولكن جري وضعهم جميعا داخل إطار نظام ليس فقط غير إصلاحي، إنما امتلك آلية مدهشة في تحويل كل هذه الأفكار والنوايا الإصلاحية لآلاف الناس الذين انضموا إليه أو إلي حزبه الحاكم، إلي مجرد شكليات، وقضايا مظهرية، لم تساهم في تقدم البلاد خطوة واحدة إلي الأمام. وهنا تبدو كارثة الوضع الحالي في أننا أصبحنا أمام سياق داخلي لا يسمح بإحداث أي تراكم في اتجاه الإصلاح، نظرا لسيطرة معادلتين لم نرهما في تاريخ مصر المعاصر، هما معادلة الركود والجمود الحاكمة منذ ربع قرن، ومعادلة التوريث المتطلعة في الظلام لانتزاع السلطة، وبالتالي أصيب العديد من الإصلاحيين بصدمة كبيرة حين دخلوا إلي الحزب الوطني وتفاعلوا مع مؤتمره الذي عقد في ٢٠٠٢ ، وسرعان ما اكتشفوا أنه لا توجد أي نية للإصلاح، وأن ما يجري هو مجرد رطانة سياسية ودردشة دعائية حول الإصلاح، فخرج منهم من خرج، واستمر من استمر مكتفيا بنقد الأوضاع القائمة في الغرف المغلقة، وأحيانا همسا أو تلميحا. والمؤكد أنه لولا هذا الارتباط المؤكد بين «حديث الإصلاح» والتوريث، لكان هناك أمل في أن تظهر اتجاهات جديدة من داخل النظام تضغط من أجل الإصلاح، لأنها لن تكون أسيرة مشروع يرتب في الظلام يقوم به حفنه من رجال المال والسياسيين الهواة، مارسوا أكبر استهانة بالشعب المصري منذ عقود طويلة، وجندوا كل إمكاناتهم المالية والأمنية ليس من أجل الإصلاح أو تحسين الأداء العام، أو حتي وقف التدهور ـ لأنها كلها مسائل تعود بالنفع علي المواطنين الذين خرجوا منذ البداية من حسابات هذه المجموعة ـ إنما في اكتناز مزيد من الأموال، و شراء مزيد من ضعاف النفوس والعقول، وترتيب تحالفات وراء الكواليس من أجل الانقضاض علي السلطة خلسة وفي غفلة من الجميع. ولذا لم يكن عجيبا أن يحمل ـ ولو تلميحا ـ أمين التنظيم السابق في الحزب الوطني وأحد رموز ما سمي بـ «الحرس القديم» في أكبر صحفنا القومية، علي هؤلاء «الذين استفادوا من أمن واستقرار النظام، وامتلأت خزائنهم بالأموال وتضخمت حساباتهم في بنوك الخارج»، مسؤولية ترديد إشاعة مرض الرئيس، وهي نفس التوصيفات التي تستخدمها المعارضة من داخل النظام وخارجه، ضد مجموعه التوريث، في تحول خطير ينذر بمرحلة جديدة من الصراع بين مجموعة الجمود «الأرحم» كثيرا، و فرقة التوريث. وفي الحقيقة من المهم العمل علي إيجاد طريق ثالث إصلاحي ينقذ البلاد من الحالة التي وصلتها، ولن يكون ـ للأسف ـ من بين المعارضة المصرية، فلا إصلاحيي حزب الوفد قادرون علي إيجاده، ولا حزب التجمع دون انقسام وفي ظل قيادة جديدة متوافق عليها قادر حتي علي إلهام الناس به، ولا الإخوان ولا حزب الإخوان يمكن أن يصنعوا هذا البديل، بل ربما غير مسموح أيضا أن يفكروا فيه، ولا القضاة وأساتذة الجماعات الإصلاحيون، ولا جورج إسحاق و«رفاقة» داخل حركة كفاية قادرون علي إيجاد هذا الطريق. إن الإصلاح إذا جاء في هذا التوقيت سيكون من داخل النظام، ولكن بشرط أن يكون خارج معادلة الجمود والتوريث، التي ستحول قريبا ما وصفاً بالاستقرار إلي فوضي، والنظام إلي جذر مملوكية متحاربة علنا بالصوت أو بالعنف، وأن ما تبقي من مؤسسات الدولة ومن مرافق عامة سينهار وسيتحلل، لأنه لا توجد قدرة قبل النية علي إصلاح أي شيء. والحقيقة أن الجرأة التي انتزعها المجتمع المصري في نقد حكامه ورؤسائه الصغار في كل مؤسسة، بفضل حركات الاحتجاج الجديدة، انتقلت إلي داخل النظام وأصبحت هناك رموز كثيرة وقيادات أكثر ترغب في إصلاح النظام لا هدمه، وهناك الآلاف من الشرفاء والأكفاء في مئات من مؤسسات الدولة يتحسرون كل يوم علي ما آل عليه وضع أجهزتهم ومرافقهم العامة ومؤسساتهم السيادية من تدهور، وحتي من اضطروا للفساد اكتشفوا أن هناك تقسيماً طبقياً للفساد، وأنهم مهما حاولوا أن يفسدوا فهم لن يستطيعوا أن يحصلوا علي الكثير من الكعكة المقسمة بين «الجمود والتوريث». صحيح أن النظام خلق في هذه المؤسسات قيادات وأجيالاً وسيطة علي شاكلته تميزت بالجهل النادر والفساد كلما أمكن، إلا أنها فشلت في الحفاظ علي الحد الأدني من أداء هذه المؤسسات في ظل عالم يتقدم كل يوم آلاف الخطوات، وهم سعداء بالركض في المكان. من المؤكد أن مصر بعد هذه الشائعة الكاشفة لما يموج داخل النظام من صراعات، دلت بصورة لا تقبل الهزل، أننا بحاجة إلي إصلاح حقيقي ومتدرج من داخل النظام، يضع أسس انطلاقة جديدة قبل فوات الآوان، نظام يشعر بالغيرة مما جري في تركيا، أو ماليزيا وكوريا، أو أمريكا اللاتينية، أو حتي السنغال وموريتانيا، يشعر بالألم علي التعذيب الذي يجري بحق مواطنين أبرياء وليسوا مجرمين أو إرهابيين، ومن انتشار الأمراض المسرطنة التي ابتلي بها الشعب، ونأي عنها حكامه، لأنهم لا يأكلون من طعامه، ومن الانهيار الذي أصاب مؤسسات دولته، ومن القاهرة التي لم يوجد فيها حي واحد إلا وتعرض للتشويه، وعاني من العشوائية، فالمطلوب هو عودة الروح للنظام، وإخراجه من التبلد الذي أصابه، وذلك بكسر معادلة الجمود والتوريث، وأن يتوافق الجميع علي أن مصر لن يحكمها بعد الآن رئيس لأكثر من مدتين |
Thursday, September 06, 2007
eslaaah
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment